"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
بسم الله الرحمن الرحيم
وجه الانتفاع بالحجّة في زمن الغيبة الكبرى
الحمدلله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على رسول الله محمد وآله الطّيّبين الطّاهرين واللّعنة على أعدائهم أجمعين.
تمهيد
إنّ من أهمّ الأمور التّي تُسكن النّفوس وتُحيي القلوبَ في زمان الغيبة الاتّصالَ المعرفيّ بمعدِن الحياة والماء المعين والحبل المتين بين السّماء والأرض، الإمام المستور عن لحظ العيون المشهود بأبصار القلوب المستضيئة بنورهl.
وهذه علاقةٌ حقيقيةٌ قد دلّنا عليها النبيُّ وأهل بيتهÐ أجمعين، ومن ثمّ وجب علينا السّعي لنفهمها ونَعِيَها حتّى نسلك بها سبيل الهدى فنتمسّك بولايته بالمعرفة والبصيرة ونطرُدَ وساوس الشّيطان والحيرة، جعلنا الله فداءً لتراب مقدمه وأكحل أعيُنَنا بغرّة مطلعه وأنالنا حُسن العاقبة بموالاته وموالاة آبائه الطّاهرينÐ أجمعين.
وأمّا ما أردناه من خلال بحثنا هذا فأن نرِدَ من باب الإنتفاع به حال غيبتهÎ وعلى آبائه الطّاهرين، ولعلّ أبرزَ ما يظهر من الرّوايات الشّريفة المستفيضة عن العترة الطّاهرةÐ أنّ وجه الانتفاع بهÎ في غيبته هو «كانتفاعنا بالشّمس إذا غيّبتها عن الأبصار السّحاب»، سواء بهذه الصّيغة أو ما يشابهها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفي البدء، نعرضُ طائفةً من الرّوايات التي وصلتنا بالمضمون المتقدّم، ثمّ نُعرّج على فقه الرّواية بعض الشيء، ثمّ نذكُر شطراً ممّا خطّته أنامل العلماء في المقام وما أضفناه من المصادر الأساسيّة، ثمّ نختم بتلخيص ما تقدّم.
أوّلاً: الرّوايات التي تعرّضت لذكر الانتفاع بالإمام الغائبÎ
ثمّ هاهنا ثلاثُ عباراتٍ رئيسة بحسب ما يظهر من الرّوايات، وقد جعلنا كُلّاً منها عنواناً لقسمٍ من الرّوايات باعتبار الاشتراك ـ ولو مضموناً ـ في فقرة «الانتفاع» التي هي محلّ النّظر في البحث، مع كون الاختلاف واقعاً في ما يتقدّم هذه العبارة، أي: في إضافة الانتفاع إلى نفس الإمامg أم إلى ولايته، مع أنّ هذا لا يؤثّر في المعنى المُستفاد من مجموعها كما سيظهر إن شاء الله.
العبارة الأولى: «وأما وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشّمس إذا غيّبتها عن الأبصار السّحاب»
كما في مكاتبة إسحاق بن يعقوب إلى الإمامg: رواها الشيخ الصّدوقO في كتابه كمال الدّين وتمام النّعمة، قال O: «حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكلينيJ قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمريJ أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمانg: أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنه ليس بين الله a وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوحg. أما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسفg»، إلى أن قالg: «وأما علة ما وقع من الغيبة فإن الله a يقول: {يَا أيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[1]، إنّه لم يكن لأحد من آبائيi إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي. وأمّا وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشّمس إذا غيّبتها عن الأبصار السّحاب، وإنّي لأمانٌ لأهل الأرض كما أن النّجوم أمان لأهل السّماء، فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلّفوا علم ما قد كُفيتم، وأكثروا الدّعاء بتعجيل الفرج فإنّ ذلك فرجُكم والسّلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى»[2].
ورواها الشيخ الطّوسيO في كتابه الغيبة، قال O: «وأخبرني جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب قال:سألت محمد بن عثمان العمريO أن يوصل لي كتاباً قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الدارg»، ثمّ ساق الرّواية إلى آخرها[3].
وروى مثلها الإربليO في كشف الغمّة حيث ذكر الرّواية مرسلةً عن إسحاق بن يعقوب، وساق الرّواية إلى قولهg: «إذا غيّبتها السّحاب عن الأبصار»[4].
وروى مثلها الطّبرسيO في الاحتجاج، وذكر الرّواية مرسلةً عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب رحمهما الله، إلى قولهg: «إذا غيّبها عن الأبصار السّحاب»[5].
وروى مثلها قطب الدين الراونديO في الخرائج والجرائح، وذكرها مرسلةً عن الشيخ الصّدوقO والعبارة ـ التي هي محلّ النّظر ـ مماثلةٌ لما في الاحتجاج[6].
العبارة الثّانية: «كانتفاع الناس بالشّمس وإن تجلّلها سحاب»
وهنا وردت العبارة في الرّوايات بأحد لفظين: «تجلّلها» و«تجلّاها»، والمعنى واحدٌ كما سيأتي في البحث.
كما في الحديث عن جابر بن عبدالله الأنصاري عن رسول اللهe: رواه الشيخ الصدوقO في كتابه المتقدّم، قال O: «حدثنا غير واحد من أصحابنا قالوا: حدثنا محمد بن همام، عن جعفر بن محمد بن مالك الفرازي قال: حدثني الحسن بن محمد بن سماعة، عن أحمد بن الحارث قال: حدثني المفضل بن عمر، عن يونس بن ظبيان، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لما أنزل الله a على نبيه محمدe: {يَا أيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ}[7]، قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الامر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟، فقالg: هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن أبي طالب ... » إلى أن قالe: «ثم سميّي وكنيّي حجة الله في أرضه، وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للايمان، قال جابر: فقلت له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الإنتفاع به في غيبته؟، فقالg: أي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس وإن تجلّلها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله، ومخزون علمه، فاكتمه إلّا عن أهله» [8].
وروى مثله الخزّاز القميّO كما سيأتي في القسم الثّالث.
كما رواه الشيخ أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطّبرسيO في إعلام الورى وذكر الحديث في كتابه مرسلاً عن الشيخ الصّدوقO وساق الحديث إلى قوله صلى الله عليه وآله: «إي والذي بعثني بالنبوة إنهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس وإن تجلّاها سحاب ... »[9]، إلى آخر الحديث.
العبارة الثّالثة: «كما ينتفعون بالشّمس إذا سترها السّحاب»
وهنا جاءت الرّوايات بِصيَغٍ متفاوتة بعض الشيء فتارةً «إذا سترها السّحاب» وطوراً «إذا سترها سحاب»، وأخرى «إن سترها سحاب»، والمعنى في الجميع واحدٌ، كما هو واضح.
رواه الخزّاز القميO في كفاية الأثر، قال O: «ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول اللهÉ في النصوص على الأئمة الاثني عشرi: حدثنا أحمد بن إسماعيل السلماني ومحمد بن عبد الله الشيباني، قالا: حدثنا محمد بن همام، عن جعفر بن محمد بن مالك الفراري، قال حدثني حسين بن محمد بن سماعة، قال حدثني أحمد بن الحارث، قال حدثني المفضل بن عمر، عن يونس ابن ظبيان، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري ... »، وساق الحديث إلى قولهe: «والذي بعثني بالنبوة إنهم ليستضيؤون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس إن سترها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلّا عن أهله»[10].
ورواه الشيخ الصّدوق في كمال الدّين، قالO: «حدثنا محمد بن أحمد الشيبانيJ قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدثنا الفضل بن صقر العبدي قال: حدثنا أبو معاوية عن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصّادق جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسينi قال: نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها، ثم قال: ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال: سليمان، فقلت للصادقg: فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟، قال: كما ينتفعون بالشّمس إذا سترها السّحاب»[11]، ورواه الشيخ الصّدوقO أيضاً في أماليّه [12]
ثانياً: في فقه الرّواية
ممّا تقدّم يظهر أنّ مسألة الانتفاع وصلت إلينا بعدّة عباراتٍ أساسيّة:
الأولى: «وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشّمس إذا غيّبتها عن الأبصار السّحاب».
الثانية: «إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس وإن تجلّلها سحاب»، أو «تجلّاها».
الثالثة: «إنهم ليستضيؤون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس إذا سترها السّحاب»، أو ما شابهها.
مقارنة العبارات ببعضها:
أمّا المشترك بينها:
أنّ انتفاع الشّيعة بإمامهم حال غيبته مثل انتفاعهم بالشّمس إذا حالَت السّحاب دون وصول أشعّتها ونورها التامّ إليهم، فيكون النّفع واصلاً إليهم بدرجةٍ تكفي لاستمرارهم على النّهج القويم مع ما تركَ أهلُ البيتiلأشياعهم من الإرث العلميّ العظيم؛ فإنّ السّحاب لا تحجبُ نورَ الشّمس كُلّه كما هو الُمشاهد بالحسّ، وإن كان تمام وكمال الإنتفاع إنّما يحصل مع ظهوره الشّريف، فيُظهر حينئذٍ من العلوم ما يُبهر العقول ويُقيم موزاين القسط والعدل، وهو معنى وراثة عباد الله الصّالحين للأرض كما جاء في كتاب الله تعالى: {ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[13].
وروى الكلينيO في الكافي عن: «عليّ بن إبراهيم عن أبيه؛ ومحمد بن يحيى عن محمد بن الحسن عمّن ذكره جميعاً عن ابن أبي عمير عن ابن أُذينة عن بريد بن معاوية، قال: قُلْتُ لأبي جعفرg: {قُلْ كَفَى بالله شَهِيْداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ}[14]، قال: إيّانا عَنى، وعليٌّg أوّلُنا وأفضلُنا وخيرُنا بعد النّبيe»[15].
وفيه عن: «الحسين بن محمّد الأشعريّ عن معلّى بن محمّد عن أحمد بن محمّد بن عبد الله عن عليّ بن محمّد النّوفليّ عن أبي الحسن صاحب العسكرg، قال: سمعته يقول: اسمُ الله الأعظم ثلاثةٌ وسبعون حرفاً كان عند آصف حرفٌ فتكلّم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيسَ حتّى صيّره إلى سليمان ثمّ انبسطت الأرض في أقلّ من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً وحرفٌ عند الله مستأثرٌ به في علم الغيب»[16].
وفيه أيضاً عن: «محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: سمعت أبا عبد اللهg يقول: والله إنّي لأعلم كتاب اللّه من أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السّماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائنٌ، قال اللهa: فيه تبيان كلّ شيء[17]»[18].
إلى العديد من الرّوايات التّي تحمل المضمون أو المعنى نفسه والتّي تُبيّن مقدار علمهمÐ والذي لا نعلمُ منه إلّا ما أظهروه لنا، بل ما وصل إلينا عن طريق الرّوايات، ومن هنا يُعلم معنى الإنتفاع المتقدّم المُشبّه بالإنتفاع بنور الشّمس الذي يسنح لنا مع حجب السّحاب له؛ فإنّه القليل مقابل الكثير العظيم بعد ظهورهl، هذا وسيأتي مزيدٌ ممّا يُستفاد من الفقرة تبعاً لأنحاء الإنتفاع به أو بولايتهÛ.
وأمّا الاختلاف:
أمّا من جهة الكلمات المُسندة إلى السّحاب:
فليس ثمّة اختلاف من حيث المعنى بين السّتر والتّغييب والتّجليل؛ أمّا الأوّلان فواضحان وأمّا التّجليل: قال ابن فارس في معجمه في سياق بيان معنى مادّة «جلل»: « ... والأصل الثاني شيءٌ يشمل شيئاً، مثل جُلِّ الفرس، ومثل المجَلِّل: الغَيْث الذي يجلِّل الأرض بالماء والنَّبات..»[19]، إذاً فمعنى «جلّلَتها» و«تجلّاها» الواردين في الرّوايات: أنّ السّحاب شملت قرصَ الشّمس وعمّته وغطّته، وهو نفس معنى سَترِه وتغييبه للشّمس أيضاً كما هو واضح.
وأمّا من جهة إضافة الإنتفاع إلى النّفس تارةً وإلى الولاية أخرى كما في قولهl: «ينتفعون بي»، و كما في سؤال سليمان للإمام الصّادقg: «فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟»، حيثُ إضافة الإنتفاع إلى نفس الإمام الغائبg، وفي المقابل قولهe: «إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته»، حيث الإضافة إلى ولاية الإمامÊ، فيمكن حلُّ هذا الاختلاف بالبيان التّالي:
أوّلاً ـ إنّ الإنتفاع المُضاف إلى نفس الإمامg له في الواقع منشآن:
الأوّل: نفسُ وجوده المبارك، أي كينونته على وجه الأرض بما هو حجّة الله وخليفته، وهذا الوجود المبارك يَنتفعُ به جميعُ النّاس برّهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فضلاً عن سائر المخلوقات، وهو ما يظهر من الرّوايات المتواترة معنىً ـ وكذا مضموناً في بعض العبارات ـ الواصلة إلينا بالأسانيد الكثيرة:
كما في علل الشرائع للشيخ الصّدوقO، قال: «حدّثنا محمّد بن الحسن، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصّفّار عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة، قال: قلت لأبي عبد الله g: تبقى الأرض بغير إمام؟، قال: لو بقيت الأرض بغير إمامٍ لساخت»[20].
ومثلها في الكافي: «الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن الرّضاg: هل تبقى الأرض بغير إمام؟، قال: لا، قلت: إنّا نُروّى أنّها لا تبقى إلّا أن يسخط اللهa على العباد؟، قال: لا تبقى، إذاً لساخت»[21].
ومثلها في كتاب الغَيبة للطّوسيO، قال: «سعد بن عبد الله الأشعري، عن محمد بن عيسى بن عبيد ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد اللهg: أتبقى الأرض بغير إمام؟، فقال: لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت»[22].
ومثلها في كتاب دلائل الإمامة للطبريّ الصّغير، قال: «وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى، عن أبيه، عن محمد بن همام، عن عبد الله بن أحمد، عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفرg، قال: سمعته يقول :لو بقيت الأرض يوماً واحداً بلا إمام منّا لساخت الأرض بأهلها، ولعذبهم الله بأشد عذابه، وذلك أن الله جعلنا حجة في أرضه وأمانا في الأرض لأهل الأرض لن يزالوا بأمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم، ثم لا يمهلهم، ولا ينظرهم، ذهب بنا من بينهم، ثم يفعل الله تعالى بهم ما يشاء»[23].
وقد ذكر المازندرانيO احتمالين لكلمة: «لساخت» الواردة في الرّوايات، قالO: «أي لغاصت في الماء وغابت، ولعلّه كناية عن هلاك البشر وفنائهم، ويحتمل أن يريد الحقيقة ... »[24]، ثمّ في شرح الرّواية التي حوت: «لا تبقى، إذاً لساخت»، قالO: «...لا تبقى بغير إمامٍ بل تغوصُ في الماء»، وقال المجلسيO في بيان معنى: «لو بقيت الأرض بغير إمامٍ لساخت»: «وقال الفيروزآبادي: ساخت قوائمه: ثاخت، والشيء: رسب، والأرض بهم سوخاً وسووخاً وسوخاناً: انخسف[25]، انتهى، والمراد هنا: غوصُها في الماء: إمّا حقيقةً أو كنايةً عن هلاك البشر وذهاب نظامها»، ثمّ في معنى: «لا تبقى»، قالO: «...السّخط الذي تصير به الأرض منخسفةً ذاهبةً غير منتظمة، ارتفع عنها التكليف» [26]، فالمعنى بين ثلاثةٍ بحسب القولين عن العلَمينP: إمّا الغوص في الماء، أو خصوصُ هلاك النّاس، أو الإنخساف بالمعنى الذي ظهر عن الفيروزآبادي، أي: انهيار ظاهر الأرض كما هو الحال مع حدوث الزّلازل الشّديدة، والأخير أظهر بحسب اللّغة إضافةً إلى الجمع بين المضامين المتسانخة الكثيرة، ويؤيّد ذلك ما تقدّم من الرّوايات السّابقة: من أنّ الله بهم يُنزل الرّزق والغيثَ والرّحمة... ، وكذا: «يُمسك الأرض أن تميد بأهلها»، وقال الطّريحيO: «‹ميد›: قوله تعالى: {وألْقَى فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أنْ تَمِيْدَ بِكُمْ}[27]... أي: تتحرّك وتميل بكم...»[28]، فيكون ما في الرّوايات السّابقة إبرازٌ لأمرين يُدفعان عن النّاس: فمن جهةٍ إمساكُ الأرض عن التّحرك الذي يهلكُ به مَن على سطحها، وأُخرى منعُ الأرض أن تسيخ بأهلها أي انهدامها وانهيارها وأيضاً فناءُ مَن عليها، وهو أقربُ لمعنى الإنخساف كما مرّ.
وكيف كان، فالانتفاع من هذه الجهة بالإمامg ـ على أقلّ التّقادير ـ يعني بقاء النّاس على قيد الحياة بسببهÛ وما يترتّب على ذلك من النّعم غير المحصورة؛ أمّا دنيويّاً فواضحٌ، وأمّا بلحاظ الآخرة فباعتبار ازدياد المؤمنين من الأعمال الصّالحة التّي ترفع من درجاتهم ومقاماتهم يوم الحساب، وأيضاً المُهلة للنّاس بأن يتوب العاصي منهم ويهتدي الضالّ.
الثّاني: إمامته وولايته التّشريعية
فولايته التّي فرضها اللهd علينا سببٌ يهتدي المؤمنون به وتستنير عقولهم بنور المعرفة على ضوئه، وينالُ الفوزَ بالشّفاعة ـ في منازل الآخرة ـ والمقامَ الرّفيع كلُّ مَن كان من شيعتهمÐ، وهذا يحصلُ بنفس الإعتقاد بإمامته وولايته ومنزلته عند الله تعالى حتّى مع غيبته عنّا كما لا يخفى، بل سيأتي أنّ هذه الغيبة لطفٌ خاصٌّ بالمؤمنين به ينالون الدّرجات العالية والقرب من الله تعالى.
ثانياً ـ قرينة السّياق
إنّ الرّوايات التي فيها إضافة الانتفاع إلى نفسه المباركة حوَت في السّياق الذي قبل وما بعد العبارة أنّهمÌ: أمانٌ لأهل الأرض وأنّهم بهم يُنزل الله تعالى الغيث ويخرج بركات الأرض وغير ذلك من الحقائق المختصّة بحجّة الله في الأرض، فبقرينة السّياق يتّضحُ أنّ الإضافة إلى النّفس كما في «ينتفعون بي» أو «به» أنّ الإمام الغائبg ـ إضافةً إلى الإنتفاع به من جهة الولاية ـ سببٌ تكوينيٌّ لبقاء النّاس على وجه البسيطة، فيكون الإنتفاع بحسب هذا القسم من الرّوايات أعمّ من الولاية التّشريعية والأمور التّكوينيّة التّابعة لوجود الحجّة في الأرض.
وأمّا روايات الإضافة إلى الولاية كما في «ينتفعون بولايته» فهي ظاهرةٌ في الولاية التّشريعيّة خاصّةً بحسب سياق رواية جابر عن النبيeـ حيثُ صُدّرت بآية {أطِيْعُوا اللهَ وأطيْعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} ـ ، وهذا يعني أنّ ما أُريد إظهاره فيها خصوصُ الإنتفاع بالإمامl من هذه الجهة، وبناءً عليه فهذه الطّائفة من الرّوايات أخصّ دلالةً من الأولى، وذلك بقرينة السّياق فيها أيضاً تبعاً لِما أُريد بيانه من وجوه الانتفاع بالإمامl.
هذا ويُمكن أن يُقال: إنّ الطّائفة الثّانية وإن كانت ظاهرةً بالانتفاع بخصوص الولاية، لكنّ ذلك باعتبار كونها من أهمّ عناوين الإمامة، وهذا العنوان يستلزم المذكورات المتقدّمة من الأمور التّكوينيّة وإن لم تُذكر، فقد ظهر من قولهمÐ في القسم الأوّل: «نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين ... ونحن أمان لأهل الأرض»، وفي القسمين الآخرين قولهe: «وأئمة المسلمين من بعدي»، وكذا من روايات سوخان الأرض قولهÎ: «بلا إمامٍ منّا»: أنّ مناط الانتفاع بكلتا الجنبتين ـ التّشريعية والتّكوينية ـ في الجميع هو الإمام والحجّة؛ فإنّ مقام الإمامة ذو حقائق متعدّدة: منها ما رتّب عليها اللهa الهداية وانتهاج صراط الحقّ المستقيم وكذا النّجاة يوم المعاد والفوز بمراتب القُرب منهمÐ في الجنان ـ وهي الولاية ـ ، ومنها ما جعلها اللهa سبباً للرّزق والخيرات الدّنيويّة كما تقدّم في الرّوايات المذكورة بل وفي غيرها من الرّوايات والآيات الشّريفة ـ وهي وجود الإمام على الأرض ـ ، ولذا ترى العلّامة المجلسيO يقول: «إنهم لينتفعون به ، ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب ... ».
بيان: التشبيه بالشمس المجلّلة بالسّحاب يُومي إلى أمور:
الأول: أن نور الوجود والعلم والهداية، يصل إلى الخلق بتوسطهg إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائيّة لايجاد الخلق، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم...»[29]، إلى آخر ما قالهO، فقد رتّب على الانتفاع بالولاية جميعَ ما ذكر في النّقطة الأولى ـ وأضاف غيرها في كتابه ـ مع ملاحظته للأخبار الكثيرة الواصلة إلينا، وقد ظهر أنّها ممّا يُستفاد من عنوان الولاية ونورها.
والحاصل ممّا تقدّم:
إنّ اختلاف العبارات الواصلة إلينا لا يؤثّر في المعنى المُستفاد منها جميعاً أو مجموعاً، فالمراد منها: الإنتفاع بكلّ ما سنحَ ـ حال الغيبة ـ من منافع ولوازم الحجّة في الأرض ومقام الإمامة الشّامخ والولاية، سواء من نفس الرّوايات، أو من بعضها ـ كما تقدّم ـ ومن البعض الآخر لكن مع ضميمة ما يُستفاد من الأخبار الكثيرة التّي تُظهر ما للإمامة من حقائق ومقامات، هذا وإن كانت المنفعة بتمامها وكمالها إنّما تتحقّق بعد ظهوره الشّريف.
وقد روى الشيخ الطّوسيO في كتاب الغيبة: « ... عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: قلت له: ما تأويل قول الله تعالى: {قُلْ أرَأيْتُم إنْ أصبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فمَنْ يَأتِيْكُم بِمَاءٍ مَعِيْنٍ}، فقال: إذا فقدتم إمامكم فلَم ترَوهُ فماذا تصنعون؟»[30]، وعقّب العلّامة المجلسيO في البحار بقوله: «بيان: كون الماء كناية عن علم الإمام لاشتراكهما في كون أحدهما سبب حياة الجسم والآخر سبب حياة الروح غير مستبعد والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض»[31]، وعليه فمن جهة العلم إنّما نغنمُ بقدر ما يصل إلينا من شعاع نوره حال غيبتهl ويبقى تمام الغُنم بعد ظهوره المبارك.
ومع ذلك يجدُر الإلفات إلى أنّ بعض المنافع لا تكون موجودةً إلّا في حال غيبتهg، ومن ثمّ فقد يكون الإنتفاع عصر الغيبة من عدّة جهات ناقصاً ولكن يقابلها نفعٌ منحصرٌ فيه، وهذا عدلٌ ولطفٌ منهd بالشّيعة المنتظرين لظهوره الشّريف، وسيأتي مزيدُ بيانٍ فترقّب.
ثالثاً: نُبذةٌ ممّا يُستفاد من أقوال جمع من العلماء أو مُصنّفاتهم أو ما استفدناه من المصادر في ضمن نقاطٍ خمس
1ـ الإمامة مُطلقاً لطفٌ[32]
الإمام المعصومg ـ سواء كان حاضراً أم غائباً ـ نفسُ وجوده بين أظهُرنا لطفٌ عامٌّ للبشريّة فضلاً عن اللُّطف الخاصّ بالمؤمنين بولايته الإلهية، ومن هنا قال العلّامة الحليO في «كشف المراد» في معرِض ردّ من أشكل بأنّ الإمام حتّى يكون لُطفاً يجب أن يكون قادراً على التّصرّف، فقالO مُفصِّلاً لما أوجزه المحقّق الطّوسيO: «وجود الإمام نفسه لطفٌ لوجوه:
أحدها: أنه يحفظ الشرائع ويحرسها عن الزّيادة والنُّقصان.
وثانيها: أن اعتقاد المكلّفين لوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم إلى الصلاح، وهذا معلومٌ بالضرورة.
وثالثها: أن تصرّفه لا شكّ أنه لطفٌ ولا يتمّ إلّا بوجوده، فيكون وجوده نفسُه لطفاً وتصرّفه لطفاً آخر»[33].
والحاصل: أنّ هناك لُطفين مُستمدّين من الإمامg أحدهما ـ ولنُسمِّه ـ «اللّطف الوجودي» والآخر «اللُّطف التصّرُفي» الفعليّ، فإذا فُقد اللُّطف الثّاني لم ينعدم الأوّل كما هو واضح.
وقد زاد على ذلك السّيد هاشم الحسيني الطّهرانيO في كتابه «توضيح المراد» قائلاً: «إنّ الأئمّة الطّاهرينÐ كانوا أئمّة الأُمّة في أمور الدّين الذي هو المقصود من بعث الأنبياء؛ لأنّ علومَ الدّين جميعاً أُصولاً وفروعاً منهم أُخذت وإليهم انتهت، وهذا أمرٌ قد تسلّمه الخاصّة والعامّة على حسب الأحاديث المرويّة عن النبيe في حقّهم والشّهود والوجود. وأمّا أُمور الدّنيا فإنّهم كانوا مشيرين فيها للرؤساء وآحاد الأُمّة إلى مصالحهم في الشّؤون والخطوب في موارد كثيرة عديدة لا تحُصى على ما في زُبُر التّواريخ والسِّيَر وإن لم يكن في أيديهم ظاهر السُّلطان، وهذا أهمُّ شؤون التّصرف وكافٍ لحصول غرضه تعالى؛ لأنّه اهتداء النّاس بهم بالاختيار، وقد اهتدى بهمÐ وباصحابهم وأتباعهم فى زمانهم وبعده إلى اليوم من كان أهلاً للاهتداء ... حتّى وصل الأمر إلى الثّاني عشر منهمÐ فأخفاه الله تعالى؛ لأنّ ما وصل من آبائه إلى النّاس من المعارف والعلوم والأحكام كان كافياً لاهتدائهم، ولأنّه لو كان ظاهراً بين النّاس فعلوا به ما فعلوا بآبائه من القتل والحبس والحصر وغيرها ... »، ثمّ يقولO: «إنّ لهÎ تصرّفاتٍ في أُمور الخلق ومنافع تصل الى العباد وإن كانوا لا يشعرون بها على ما هو معتقد الاثني عشريّة مستدلّاً في كتبهم كما ورد فى حديث عن النبيe من أنَّ النّاس ينتفعون به في غيبته كما ينتفعون من الشّمس ودونها سحاب، هذا إجمالٌ وتفصيل الجواب في كتب الاصحاب ... »[34]، وفي موضعٍ آخر: «نحن نعتقد أنّ الإمام الثّاني عشرg وإن كان غائباً عنّا لكنّا لسنا غائبين عنه، بل نحن بمنظره ومرآه لا يغيب عنه شيء من أمورنا وأحوالنا، يسمع كلامنا ويرى مقامنا ويطّلع على أحوالنا، ونحن ندعوه ليلاً ونهاراً لحوائجنا وأمورنا لاعتقادنا بأنّ دعوته عند الله مستجابةٌ وله لديه منزلة عالية رفيعة، ونرى آثار وجوده وتصرّفه وعطفه ورأفته في كلّ أوان في اليقظة والمنام، وقد ظهر ويظهرُÎ بعض الظّهور لبعض أوليائه عند الضّرورة ... فيُعلم أنّ وجوده لطف وإن لم يكن ظاهراً للنّاس، ولا ينبغي أن يصغى إلى خرافات الشّبهات التى أبدعها إبليس في صدور بعض الجهلة العميان وينفث بهم على اللّسان»[35].
وعليه: فحتّى «اللُّطف التّصرُّفي» حاصلٌ ويتحقّق منهl على الدّوام وإن كان غائباً عن أغلب النّاس، وأمّا كمال هذا التّصرُّف فإنّما يتحقّق بعد ظهوره المبارك حيثُ تكون الأرضيّة قد مُهِّدت لبسط يده وسلطانه وهو ما لم يتحقّق لآبائه الطّاهرينÐ أجمعين من قبل.
2ـ تدبير الأمر
فالإمام من أئمّة أهل البيتi موكّلٌ بتدبير أحوال الرعيّة وشؤونهم من قِبل اللهa، سواء كان الإمام حاضراً أم غائباً بلا فرق، وقد ذكر الشيخ الصّدوقO قريباً من هذه الفائدة من خلال حديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة حيث قال: «يا أبا مروان، إنّ الله لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصّحيح وينفي ما شكّت فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك يردّ إليك شكّك وحيرتك؟، قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً ... ».
ثمّ عقّبَ الشيخ الصّدوقO بعد روايته له بقوله: «وفي حديث هشام مع عمرو بن عبيد حجّةٌ في الانتفاع بالحجة الغائب ... g و كما يُعلم مكان القلب من الجسد بالخبر فكذلك يعلم مكان الحجة الغائبg بالخبر ... إنّما نعني بالقلب اللّطيفةَ التي جعلها اللهa في هذه المضغة لا تدرك بالبصر ... كما يجوز أن يحتج اللهa بهذه اللطيفة الغائبة عن الحواس على الجوارح فكذلك جائزٌ أن يحتجّ a على جميع الخلق بحجّةٍ غائبٍ عنهم به يدفع عنهم وبه يرزقهم وبه ينزل عليهم الغيث ولا قوة إلا بالله»[36].
وأوضحُ منه شهادة سورة القدر بأنّ الأمر إنّما يتنزّلُ عليهمÐ بعد رسول اللهe وهذا يجري إلى يوم القيامة، فتدبير الأمر أُوكِلَ إليهم ويتنزّل إليهم علمُ كلّ أمرٍ وما هو كائنٌ في تلك السّنة مستقبَلاً في تلك الليلة الشريفة، فـ«عن أبي عبد اللهg، قال: كان عليٌّg كثيراً ما يقول: اجتمع التّيميُّ والعدويُّ عند رسول اللهe وهو يقرأ {إنّا إنزلناهُ} بتخشّعٍ وبكاءٍ، فيقولان: ما أشدّ رقّتك لهذه السّورة! فيقول رسول اللهe: لمِا رأت عيني ووعى قلبي، ولما يرى قلب هذا من بعدي. فيقولان: وما الّذي رأيت؟ وما الّذي يرى؟، قال: فيكتب لهما في التّراب: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيْهَا بإذْنِ رَبِّهمْ}، قال: ثمّ يقول: هل بقي شيءٌ بعد قولهa: {كُلِّ أمرٍ}؟، فيقولان: لا، فيقول: هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان: أنت يا رسول الله، فيقول: نعم. فيقول: هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: إلى من؟ فيقولان: لاندري، فيأخذ برأسي ويقول: إن لم تدريا فادريا، هو هذا من بعدي. قال: فإنْ كانا ليعرفان تلك اللّيلة بعد رسول اللهe من شدّة ما يداخلهما من الرّعب.
وعن أبي جعفرٍg، قال: «يا معشر الشّيعة، خاصموا بسورة {إنّا أنْزَلناهُ} تفلجوا، فوالله إنّها لحجّة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول اللهe، وإنّها لسيِّدةُ دينكُم، وإنّها لغايةُ علمنا ... » [37].
3ـ التّصرُّفُ الخفيّ
وهذا من قبيل أفعال العبد الصّالح الخضرg كما ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم في سورة الكهف، حيث صاحبَه نبيُّ الله موسىm ليتعلّم منه العلمَ الخاصّ ـ المعروف بـ «اللّدُنّي» ـ الذي علّمه الله إيّاه، فقتل الغلامَ لعلمه بما سيؤدّي إليه بقاؤه حيّاً ـ مع كُفره ـ من الشّقاء لوالديه المؤمنَين لُطفاً منه تعالى ورحمة، قالa: {وأمّا الغُلامُ فكَانَ أبَواهُ مُؤْمِنيْنِ فخَشِيْنَا أنْ يُرهِقَهُمَا طُغيَاناً وكُفْراً فأرَدْنَا أنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْماً}[38]، وكذا خرقُ السّفينة وإقامة الجدار، هذا مع أنّ علمَ أهل البيتi شاملٌ لذلك وزيادة كما هو ضروريٌّ ومعروف، وفي سورة القدر كفاية ٌفي الدّلالة على ذلك فضلاً عن الآيات والرّوايات المشهورة.
وهذه التّصرّفات ممكنةٌ سواء بمباشرةٍ منهÎ أو من خلال بعض الأعوان الخاصّين به، وعليه فقد تحصل تصرّفاتٌ كثيرةٌ تخفى علينا ويكون الإمامg وراءها، وذكر الشيخ السبحانيB ما هو مضمون ذلك في الجملة وأضاف: «فأيُّ مانعٍ حينئذ من أن يكون للإمام الغائب في كلّ يوم وليلة تصرّف من هذا النمط من التصرّفات؟، ويؤيّد ذلك ما دلّت عليه الرّوايات من أنّه يحضر الموسم في أشهر الحج، ويحجّ ويصاحب الناس ويحضر المجالس، كما دلت على أنّه يغيث المضطرين ويعود المرضى وربّما يتكفّل ـ بنفسه الشريفة ـ قضاء حوائجهم وإن كان الناس لا يعرفونه»، إلى أن قال: «المُسلّم هو عدم إمكان وصول عموم النّاس إليه في غَيبته، وأمّا عدم وصول الخواص إليه فليس بأمرٍ مسلّم، بل الّذي دلّت عليه الرّوايات خلافه، فالصّلحاء من الأُمّة الّذين يُستَدَرُّ بهم الغمام لهم التشرّف بلقائه والاستفادة من نور وجوده، وبالتالي تستفيد الأُمّة بواسطتهم»[39].
4ـ اللُّطف الخاصّ بالشّيعة وهو على قسمين:
الأوّل: صونُهم عن الورود في الضّلالة وهو على نحوين:
أحدهما ـ إرجاع آحاد النّاس إلى الفقهاء حال غيبته
كما في المكاتبة المتقدّمة عن إسحاق بن يعقوب حيث قالg: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»[40]، فينتفعون عبرهم بعلم أهل البيتi في شتّى شؤون حياتهم سواء الشّرعيّة أو العقائديّة بل والاجتماعية وغير ذلك من الأمور المهمّة والخطيرة، وبالتّالي نفسُ الإرجاع إلى حملة علومهم بالنّيابة العامّة وجهٌ عظيمٌ للانتفاع بنفس الإمامg؛ لأنّهg هو الذي وجّه إلى ذلك وأذِنَ بإذنه العامّ في الرّجوع إليهم وإلّا لتخبّط النّاس وضلّوا السّبيل، ومع كون ولاية الفقهاء طوليّةً بالنّسبة لولايتهlفاستمرار الإذن العامّ وكونهم حجّة المعصوم على النّاس إنّما تكون في ظرف ولايته وإمامته في عصر الغيبة، ومن ثمّ كان هذا أحد وجوه الإنتفاع بهl.
قال السيد المرتضىO في كتابه الشّافي: « ... فأمّا الفتاوى فلا تبطل ـ كما ادعيت ـ بل يتولّاها من استُودع حكم الحوادث ـ وهم الشيعة ـ بما نقلوه عن أئمتهمi، ومَن عدل عن هذا المعدن الذي بيّنّاه لم يكن له أن يفتي؛ لأنّه لا يفتي في الأكثر إلّا بما هو عاملٌ فيه بالظن والتّرجيم، فإن قال: هذا تصريحٌ منكم باستغناء الشيعة بما علمته عن إمام الزمان؛ لأنّها إذا كانت قد استفادت علم الحوادث عمن تقدّمَ ظهورُه من الأئمةi فأيُّ حاجة بها إلى هذا الإمام؟، قيل له: إنّما يجب ما ظننته لو كان ما استفدته من هذه العلوم ووثقت به لا يفتقر إلى كون الإمام من ورائهم، وقد علمنا خلاف ذلك؛ لأنّه لولا وجود الإمام ـ مع جواز ترك النقل على الشيعة والعدول عنه ـ لم نأمن أن يكون ما أدُّوه إلينا بعض ما سمعوه، وليس نأمن وقوع ما هو جائز عليهم مما أشرنا إليه إلّا بالقطع على وجود معصوم من ورائهم»[41]، إذاً فالفتوى إنّما تصحُّ من المُسلم إذا كان هناك إمامٌ معصومٌ وراء فتواه يضمن ذلك، وهذا متعذّرٌ إلّا من علماء الشّيعة في عصر الغيبة المعتقدين بوجوده المباركÊ وأنّه الحجّة وراء هؤلاء العلماء الأجلّاء.
وقال الشيخ جعفر السبحانيB: «لا يجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الأُمور الظاهرية بنفسه، بل له تولية غيره على التصرف في الأُمور كما فعل الإمام المهديّ ـ أرواحنا له الفداء ـ في غَيبته، ففي الغَيْبة الصُّغرى كان له وكلاء أربعة يقومون بحوائج الناس، وكانت الصّلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم، وفي الغيبة الكبرى نصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام للقضاء وتدبير الأُمور وإقامة الحدود وجعلهم حجّةً على الناس، فهم يقومون في عصر الغيبة بصيانة الشّرع عن التحريف وبيان الأحكام ودفع الشُّبهات وبكلّ ما يتوقّف عليه نظم أُمور الناس»[42].
وفي مقام رواية ما جاء في فضل العلماء في عصر الغيبة، قال الشيخ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطّبرسيO في الاحتجاج: « ... ما حدثني به السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشيJ، قال: حدثني الشيخ الصادق أبو عبد الله جعفر بن محمد ابن أحمد الدوريستيÀ، قال: حدثني أبي محمد بن أحمد، قال: حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القميO، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن القاسم المفسر الاسترآبادي، قال: حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار ـ وكانا من الشّيعة الإماميّة ـ، قالا: حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العسكريh ... »، إلى أن قالO: «... وعنهg قال: قال علي بن محمدh: لولا من يبقى بعد غيبة قائمكمg من العلماء الدّاعين إليه والدّالّين عليه والذّابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النّواصب لما بقي أحدٌ إلّا ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّةَ قلوب ضعفاء الشّيعة كما يمسك صاحب السّفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند اللهa»[43]، وإنّما كانت نعمةُ وجود العلماء والفقهاء في عصر الغيبة أوّلاً بسبب القرآن والعترة الطّاهرةÐ اللّذين هما رُكنا العلم الإلهيّ وإلّا لم يكُن علمٌ ولا علماء بعد بدء عصر الغيبة الكبرى، وثانياً بسبب الإذن العامّ في الرّجوع إليهم كما تقدّم، وهذا انتفاعٌ قائمٌ مستمرٌّ حتّى أن يأذنَ الله لوليّهl بالظّهور، فالشُّكر لله على عظيم ما أنعمَ به وتفضّل.
ثانيهما ـ أنّ الإمامg يحفظُ ويصون الإماميّةَ عن الورود في المهالك
وهو نظير ما تقدّم في «التصرّف الخفيّ» لكن بلحاظ الإماميّة كجماعةٍ أو أمّة، أي: يحفظهم من الضّياع والورود في المهالك التّي بسببها انحرفت أُممٌ سابقةٌ وفرقٌ ومذاهب، وأيضاً يحفظهم من شرّ الطُّغاة ومكرهم بحيث لا يُستأصلون بأجمعهم كما هو دأبُ النّواصب وغيرهم وهو ما يشهد له التّاريخ ولا يزال، وكذلك دفعُ الأعظم عنهم وإن لحق ببعضهم ضررٌ في الأنفس والأموال؛ فإنّ ذلك أقلّ ممّا يمكن أن يكون لولا عناية الإمامl، ويؤيّد ذلك مكاتبة الشيخ المفيدO التي رواها مرسلةً الطّبرسيO في الاحتجاج، قال: «ذكرُ كتاب ورد من الناحية المقدسة ـ حرسها الله ورعاها ـ في أيّامٍ بقيَت من صفر سنة عشر وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدّس الله روحه ونوّر ضريحه، ذكرَ مُوصلُه أنّه يحمله من ناحية متّصلةٍ بالحجاز، نسخته: للأخ السّديد والوليّ الرّشيد الشّيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد ... أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته ... نحن وإن كنّا ناوين بمكاننا النّائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصّلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفّاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزبُ عنّا شيءٌ من أخباركم ومعرفتنا بالذُّلّ الذي أصابكم مُذ جنح كثيرٌ منكم إلى ما كان السّلف الصّالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم {كأنَّهُمْ لا يَعلَمُونَ}[44]. إنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللّأواء[45] أو اصطلمكم[46] الأعداء، فاتّقوا اللهc وظاهرونا على انتياشكم[47] من فتنةٍ قد أنافت عليكم يهلكُ فيها من حمّ[48] أجلُه، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارةٌ لأزوف حركتنا ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، {واللهُ مُتِمُّ نُورِه ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} ... »[49]، إلى آخر ما نُقل في المكاتبة عن الحجّةl، وقد ظهرَ منها أنّه لا بدّ للشّيعة من القيامِ بما يكون مُقدّمةً تستدعي مدّ العون لهم من قِبَلهl واستنقاذهم من الأخطار المُحدقة بهم أفراداً وجماعةً، وهو معنى عنوان الانتظار لأمرهمÐ، وللكلام صِلةٌ خارجةٌ عمّا نريده في بحثنا هذا.
وأيضاً فإنّ الإمام صاحب العصر والزّمانl له أعوانٌ ثقات، والظّاهرُ أنّه لا يخلو من عدّتهم زمان، فيُبدل الله سبحانه كلّما قضى أحدٌ منهم بآخر مكانه، وقد روى الشيخ الكلينيO في الكافي، قائلاً: «عدّةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن علي الوشّاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللهg، قال: لا بُدّ لصاحب هذا الأمر من غَيبة، ولا بدّ لهُ في غيبته من عُزلة، ونِعم المنزلُ طَيبة، وما بثلاثين من وحشة»[50]. وفي شرحه قال العلّامة المجلسيّO في مرآة العقول: « ... والعزلة بالضم: اسم الاعتزال أي المفارقة عن الخلق. «ولا بد له في غيبته»: في بعض النسخ: «ولا له في غيبته»، أي ليس في غيبته مُعتزلاً عن الخلق بل هو بينهم ولا يعرفونه، والأول أظهر وموافق لما في سائر الكتب ... «وما بثلاثين من وحشة»: أي هوg مع ثلاثين من مواليه وخواصّه، وليس لهم وحشة لاستيناس بعضهم ببعض، أو هوg داخل في العدد فلا يستوحش هو أيضاً، أو الباء بمعنى مع، أي: لا يستوحشg لكونه مع ثلاثين، وقيل: هو مخصوص بالغيبة الصغرى ... »[51].
أقول: الظّاهرُ ما قالهO أوّلاً ـ في شرح «وما بثلاثين» ـ أظهرُ من التّقييد بالغيبة الصُّغرى حيث لا قرينة عليها في السّياق، إلّا أن يُؤتى بقرينةٍ من خارج الرّواية، ولعلّه لأجل ذلك قال: «وقيل»، أي هو قولٌ ضعيفٌ أو لم يُعرف وجهُه أو ليس بظاهرٍ مثلاً.
وبناءً على الإطلاق وأنّ عدّة الثلاثين هم في كلّ زمان، فهؤلاء بلا شكّ يحفظون سرّ الإمامg وله أن يوكلَ إليهم المهامّ الخاصّة التّي تصونُ الأمّة وتحفظها ـ بل المرجّح ذلك ـ فيقومون بها سواء علِمنا أم لم نعلم بطبيعة فِعلهم وعملهم، وتفصيلُ ذلك غيرُ معلومٍ لأغلب النّاس، ضرورةَ أنّ المطلوب سريّة العمل حِفاظاً على الإمامl من أن يوصلَ إليه بسوء، وهذا لا يكون إلّا بأمثال هؤلاء القليل النّارد، فحالُهم كحالِ البعض القليل زمن الغيبة الصُّغرى كالحسين بن روحO والنّواب الثلاثة الآخرين، من شدّة الكتمان وعدم المسامحة فيما قد يؤدّي إلى انكشاف السرّ، إضافةً إلى أنّهم مستعدّون للتّضحية بأنفسهم ولو قُرِّضوا بالمقاريض دون أن يَنبِسوا ببنتِ شَفة!
وإن قيل بالتّقييد بالغيبة الصّغرى أو غير ذلك، فيؤيّد العنوانَ المرويُّ في كمال الدين، قال: «حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي العمري السمرقنديJ، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه محمد بن مسعود ، عن جعفر بن أحمد ، عن الحسن بن علي بن فضال، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضاh يقول: إنّ الخضرgشرب من ماء الحياة فهو حيٌّ لا يموت حتّى يُنفخ في الصُّور ... وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته»[52]، فإنّ إيناس وحشتهl بالخضرg يعني دوام التّلاقي بينهما وما يتضمّن ذلك من الأمور المهمّة على مستوى الأمّة.
وكيف كان فإنّ المُلاحظ للرّوايات يطمئنُّ لمثل هذا الدّور للإمامÛ سواء بنفسه أم بتوكيل الخواصّ أم الجميع، والله العالم.
الثّاني: أنّ عصرالغيبة ظرفٌ خاصٌّ لنيل المقامات العالية
إنّ الله تبارك وتعالى يلطفُ بالعباد بما يُقرّبهم إلى الطّاعة ويُبعِّدهم عن المعصية، وفي عصر الغيبة فقدَ الإماميةُ الاستفادة والغُنمَ من نور الإمامlبالمعنى التامّ المتقدّم، فكان هذا الظّرف الزّمانيّ فيه لُطفٌ خاصٌّ للانتفاع ونيل المقامات العالية والثّواب الجزيل المنحصر فيه إذا كانوا منتظرين عاملين مجتهدين، مع ما يكونُ من الصّعاب والشّدائد والفتن التي حصلت وتحصل بل وتشتدُّ بحسب ما يظهر من الرّوايات الشّريفة، وقد بيّن أهل البيتi في الرّوايات ثواب المؤمنين الصّابرين في عصر الغيبة:
منها: ما رواه في الكافي، قالO: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن خالد، عمّن حدّثه، عن المفضّل بن عمر؛ ومحمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد اللهg، قال: أقربُ ما يكون العباد من الله جلّ ذكره وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجّة اللهa ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه، وهم في ذلك يعلمون أنّه لم تبطُل حجّة الله جلّ ذكره ولا ميثاقه، فعندها فتوقّعوا الفرج صباحاً ومساء؛ فإنّ أشدّ ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجّته ولم يظهر لهم وقد علم أنّ أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنّهم يرتابون ما غيّبَ حجّته عنهم طرفة عين، ولا يكون ذلك إلّا على رأس شرار النّاس»[53].
قال العلّامة المجلسيO: « ... وإنّما كانوا أقرب وأرضى لكون الإيمان عليهم أشدّ والشّبه عليهم أقوى لعدم رؤيتهم الأئمةiومعجزاتهم، وإنّما يؤمنون بالنّظر في البراهين والتفكّر في الآثار والأخبار لا سيّما مع امتداد غيبة الإمامg وعدم وصول خبره عليهم في الغيبة الكبرى، وكثرة وساوس شياطين الجن والإنس في ذلك، «فعندها»: أي عند حصول تلك الحالة، «توقعوا»: أي انتظروا الفرج وهو التفصّي[54] من الهمّ والغمّ بظهور الإمامg ... »[55].
ومنها: في الكافي أيضاً: «الحسين بن محمّد الأشعريّ عن معلّى بن محمّد عن عليّ بن مرداس عن صفوان بن يحيى والحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن عمّار السّاباطيّ، قال: قلت لأبي عبد اللّهg: أيّما أفضل: العبادة في السّرّ مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل أو العبادة في ظهور الحقّ ودولته مع الإمام منكم الظّاهر؟، فقال: يا عمّار الصّدقة في السّرّ واللّه أفضلُ من الصّدقة في العلانية، وكذلك والله عبادتكم في السّرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وتخوّفُكم من عدوّكم في دولة الباطل وحالَ الهدنة، أفضل ممّن يعبد اللّهa ذكره في ظهور الحقّ مع إمام الحقّ الظّاهر في دولة الحقّ، وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحقّ ... »، إلى أن قال عمار: «قلت: جعلت فداك فما نرى إذاً أن نكون من أصحاب القائمg ويظهر الحقّ ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالًا من أصحاب دولة الحقّ والعدل، فقال: سبحان الله!، أما تحبّون أن يظهر اللّه تبارك وتعالى الحقَّ والعدل في البلاد ويجمعَ الله الكلمة ويؤلّف الله بين قلوبٍ مختلفة، ولايُعصى اللّهa في أرضه وتُقام حدوده في خلقه، ويردّ الله الحقّ إلى أهله فيظهرَ حتّى لايُستخفى بشيءٍ من الحقّ مخافةَ أحدٍ من الخلق؟، أما واللّه يا عمّار لايموتُ منكم ميّتٌ على الحال الّتي أنتم عليها إلّا كان أفضل عند اللّه من كثير من شهداء بدر وأحد، فأبشروا» [56].
قال المولى صالح المازندرانيO: « ... المراد بالإمام المستتر من لا يقدر على إظهار الدين كما ينبغي خوفاً من الأعداء والظّلَمة سواء كان ظاهراً بين الخلق أو كان غائباً عنهم فكلُّ إمامٍ إلى زمان ظهور صاحب الزمان فهو مستترٌ بهذا المعنى، والمراد بالإمام الظّاهر من قدرَ على ذلك وكان حكمُه جارياً على الخلق وهو صاحب الزمان بعد ظهوره ... » [57]
ومثلُ هذه الرّوايات مضموناً أو معنىً كثيرٌ في كتب الأصحاب، فمن شاء فليُراجع.
5ـ النّجاة باعتقاد إمامته وولايتهl
وهنا الكلام منظورٌ له من جهةِ أصل الاعتقاد والكون تحت راية وولاية من تجبُ طاعته كما هو ضروريٌّ عند المسلمين، ولذا يقول الشيخ الطوسيO: «المخالف في وجوب الإمامة طائفتان: أحدُهما[58] يُخالف في وجوبها عقلاً، والآخر يُخالف في وجوبها سمعاً، فالمخالف في وجوبها سمعاً شاذٌّ لا يعتدّ به لشذوذه؛ لأنّه لا يُعرف قائلٌ به، وعلماء الأمّة المعروفون مُجمعون على وجوب الإمامة سمعاً والخلاف القويُّ في وجوب الإمامة عقلاً، فإنّه لا يقول بوجوبها عقلاً غيرُ الإماميّة والبغداديين من المعتزلة وجماعةٍ من المتأخرين، والباقون يخالفون في ذلك ويقولون المرجع فيه إلى السّمع»[59]، وحاصلُه أنّ وجوب الإمامة من الضّروريّات عند علماء الإسلام كافّةً، إمّا بحُكم العقل أو السّمع أو كليهما على اختلاف الآراء والمباني.
وقد أفردَ الشيخ الأمينيO في كتاب الغدير باباً خاصّاً جعل عنوانه حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» [60]، ذكر فيه الكثير ممن طُرق العامّة بما كان بنفس اللفظ أو المعنى، وهو كذلك في كتبنا كثيرٌ معنىً أو مضموناً، فهو حديثٌ متواترٌ بين المسلمين عامّةً من حيث المعنى لا أقلّ.
هذا من ناحية الكُبرى، وأمّا الصُّغرى: فقد حارَ في مصداق من تجبُ طاعتُه ويكون إماماً ـ خصوصاً في المرحلة التّالية للعبّاسيين ـ من حار، حتّى قال التّفتازاني: «والخلافة ثلاثون سنة ثم بعدها ملك وأمارةٌ لقولهg: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصيرُ ملكاً عضوضاً، وقد استشهد عليٌّ رضي الله عنه على رأس ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعاوية ومن بعده لا يكونون خلفاء، بل كانوا ملوكاً وأمراء، وهذا مشكل، لأنّ أهل الحل والعقد من الأمّة قد كانوا متّفقين على خلافة الخلفاء العبّاسيين، وبعض المروانيين كعمر بن عبد العزّيز مثلاً، ولعلّ المراد أنّ الخلافة الكاملة التي لا يشوبها شيءٌ من المخالفة وميلٌ عن المتابعة تكون ثلاثين سنة، وبعدها قد يكون وقد لا يكون ... فإن قيل: لم لا يجوز الاكتفاء بذي شوكة في كلّ ناحية، ومن أين يجبُ نصب من له الرئاسة العامة؟ قلنا: لأنّه يؤدّي الى منازعات ومخاصمات مفضية الى اختلال أمر الدّين والدنيا، كما يشاهد فى زماننا هذا ... فإن قيل: فعلى ما ذُكر من أنّ مدّة الخلافة ثلاثون سنة يكون الزمان بعد الخلفاء الراشدين خالياً عن الإمام فتعصي الأمّة كلُّهم وتكون ميتتهم ميتةً جاهليّة، قلنا: قد سبق أنّ المراد: الخلافة الكاملة، و لو سُلِّم، فلعلّ بعدها دورُ الخلافة ينقضي دون دور الامامة بناءً على أنّ الامام أعمّ، لكنّ هذا الاصطلاح ممّا لم نجده للقوم، بل من الشّيعة من يزعم: أن الخليفة أعم، ولهذا يقولون بخلافة الأئمّة الثّلاثة دون إمامتهم، وأمّا بعد الخلفاء العبّاسيين فالأمر مشكل» [61].
فانظُر إلى قوله: «مُشكلٌ» كيف تكرّرَ، حتّى أوّلَ معنى الخلافة بكونها بالمعنى الكامل معالجةً منه لنتيجة ما أصّلوه وترميماً لِما أبدعوه في أمر الخلافة والإمامة، وهكذا تجدُ أنّ من لا يؤمن بإمام زمانه أو لا يعرفه لا سيّما في هذه العصور فهو ممّن يصدُق عليه الحديث المتقدّم، وأمّا المعتقدون لاستمرار الإمامة بعد رسول اللهe بلا انقطاعٍ كما هو حال الشّيعة الإماميّة فيكفي الإنتفاع بإمامهم المهديّ الحيّl أن يموتوا على هُدىً آمنين من الحشر يوم القيامة على الجاهليّة، ولذا قال العلّامة الأمينيO: « ... هذه حقيقةٌ راهنةٌ أثبتتها الصّحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها، ولا يتمّ إسلامُ مسلمٍ إلّا بالنّزول لمؤدّاها، ولم يختلف في ذلك اثنان، ولا إنّ أحداً خالجه في ذلك شكٌّ، وهذا التّعبير ينمُّ عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام وإنه في منتئى عن أيّ نجاحٍ وفلاح؛ فإنّ ميتة الجاهلية إنّما هي شرُّ ميتة، ميتةُ كفرٍ وإلحاد ... »[62].
رابعاً: الختام وتلخيصُ ما تقدّم
ما عرضناه من الإنتفاع هو خُلاصة وأبرز ما يظهر من الآيات والرّوايات وأقوال العلماء والمصنّفات، وبعضٌ أضفناه تبعاً لِما وجدناه مهمّاً في تلك المصادر، وقد بحث العلماءُ المسألة بمزيدٍ من العُمق وبما يرتبطُ بالإمامة من جذورها لا سيّما في علم الكلام وغيره، كما أنّنا لم نتعرّض إلى بعض المسائل الجزئيّة كمثل إثبات ملاقاة البعض من الشّيعة للإمامl؛ لأنّ الغرض من البحث إثبات أصل الإنتفاع وبعض أنحائه كعناوين كليّة، ومن شاء الاطّلاع عليها فكتب الأصحاب من المتقدّمين حَوت ذلك وكذا مَن تأخّر عنهم إلى يومنا هذا، هذا ويجدُر القول بأنّ عُمدة الرّوايات المُستدلّ بها هي بين مستفيضةٍ ومتواترة ولو معنىً، وهذا علمٌ على مختلف المباني في علم الأصول.
خلاصة ما تقدّم في ضمن نقاط:
الرّوايات في كتب الأصحاب مستفيضةٌ مضموناً في أنّ الإنتفاع بالإمامl في غيبته كالانتفاع بالشّمس إذا غيّبتها عن الأبصار السّحاب، وقد اشتركت جميعها في المضمون، واختلفت في ما يُضاف إليه الإنتفاع مع عدم تأثيره في المعنى المستفاد.
وعلى هذا الأساس كان فرز الرّوايات إلى أقسام تحت عبارات ثلاثٍ رئيسة، وهي:
الأولى: «وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشّمس إذا غيّبتها عن الأبصار السّحاب».
الثانية: «إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس وإن تجلّلها سحاب»، أو «تجلّاها».
الثالثة: «إنهم ليستضيؤون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشّمس إذا سترها السّحاب»، أو ما شابهها.
أمّا المشترك بينها: فهو مضمون أنّ انتفاع الشّيعة بإمامهم حال غيبته كمثل النّور من الشّمس إذا غيّبتها السّحاب، وهي بدرجةٍ تكفي لاستمرارهم على النّهج القويم.
وأمّا الإختلاف: أمّا من جهة الكلمات المُسندة إلى السّحاب: فليس ثمّة اختلاف من حيث المعنى بين السّتر والتّغييب والتّجليل.
وأمّا من جهة إضافة الإنتفاع إلى النّفس تارةً وإلى الولاية أخرى فيمكن حلُّ هذا الاختلاف بـ:
أوّلاً ـ إنّ الإنتفاع المُضاف إلى نفس الإمامg له في الواقع منشآن: الأوّل: نفسُ وجوده المبارك كما يظهر من الرّوايات المتواترة معنىً التي حوت مضمون: «لو بقيت الأرض بغير إمامٍ لساخت»، والثّاني: إمامته وولايته التّشريعية.
ثانياً ـ قرينة السّياق: فسياق روايات الإضافة إلى نفس الإمامg يُفيد أنّ الإنتفاع أعمّ من الولاية التّشريعية والأمور التّكوينيّة. وأمّا سياق روايات الإضافة إلى الولاية فمؤدّاه الولاية التّشريعيّة خاصّةً. ويُمكن أن يُقال: إنّ الأخيرة فيها ذكرُ الولاية التي هي عنوان الإمامة، فتكون الأمور التّكوينيّة لازمةً وإن لم تُذكر.
والحاصل: أنّ اختلاف العبارات الواصلة إلينا لا يؤثّر في المعنى المُستفاد منها جميعاً أو مجموعاً.
نُبذةٌ ممّا يُستفاد من أقوال جمع من العلماء أو مُصنّفاتهم أو ما استفدناه من المصادر في ضمن نقاطٍ:
الإمامة مُطلقاً لطفٌ: سواء كان حاضراً أم غائباً، وهناك لُطفان مُستمدّان من الإمامg أحدهما «اللّطف الوجودي» والآخر «اللُّطف التصّرُفي» فإذا فُقد الثّاني لم ينعدم الأوّل، بل ثبتَ أنّ الأخير حاصلٌ ويتحقّق منهl على الدّوام.
تدبير الأمر: فالإمامg موكّلٌ بتدبير أحوال الرعيّة وشؤونهم من قِبل اللهa، وقد ذكر الشيخ الصّدوقO قريباً من هذه الفائدة بعد ذكر حديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد، وأيضاً سورة القدر شاهدٌ ودليلٌ على ذلك.
التّصرُّفُ الخفيّ: وهو من قبيل أفعال العبد الصّالح الخضرg، مع أنّ علمَ أهل البيتi شاملٌ لذلك وزيادة.
اللُّطف الخاصّ بالشّيعة وهو على قسمين:
الأوّل: صونُهم عن الورود في الضّلالة وهو على نحوين:
أحدهما ـ إرجاع آحاد النّاس إلى الفقهاء حال غيبته بالإذن العامّ وكونهم حجّةً في ظلّ إمامته حال الغيبة.
ثانيهما ـ أنّ الإمامg يحفظُ ويصون الإماميّةَ عن الورود في المهالك كأمّة.
الثّاني ـ عصرالغيبة ظرفٌ خاصٌّ لنيل المقامات العالية، وقد بيّن أهل البيتi ذلك في الرّوايات الكثيرة.
النّجاة باعتقاد إمامته وولايتهl، وكفى بها فائدةً يُنتفع بها بهÛ.
[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، محرّم الحرام 1405 ـ 1363ش، ص483.
[6] قطب الدين الراوندي، الخرائج والجرائح، مؤسسة الإمام المهدي ـ قم المقدسة، ط1، ذو الحجة 1409، ج3، ص1115 .
[9] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، مؤسسة آل البيتi ـ قم المقدسة، ط1، ربيع الأول 1417، ج2، ص182.
[17] إشارةً إلى الآية 89 من سورة النحل: {ويَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أمّةٍ شَهِيْداً عَلَيْهِمْ مِنْ أنْفُسِهمْ وجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لكُلِّ شيءٍ وهُدىً ورَحمةً وبُشْرى للمُسْلِمينَ}.
[19] أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، مكتب الاعلام الاسلامي ـ قم المقدّسة، ط1، 1404 هـ، ج1، ص418.
[20] الشيخ الصدوق، علل الشّرائع، المكتبة الحيدرية ـ النجف الأشرف، 1385 ـ 1966م، ج1، ص 196، إضافةً إلى ما رواه بنفس المضمون أو المعنى بطرقٍ كثيرة في كتابه.
[24] المازندراني، المولى محمد صالح، شرح أصول الكافي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ط1، 1421 ـ 2000م، ج5، ص126.
[25] في المصدر: « . . . والأرض بهم: سيوخا وسؤوخا وسوخانا: انخسفت»، يُنظر: الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج1، ص262.
[26] العلامة المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ط2، 1404 هـ، ج2، ص 297 و298.
[27] النحل / 15، و لقمان / 10، ومثلها: {وجَعَلۡنَا فِي الأرضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم }، الأنبياء / 31.
[32] قال الشيخ جعفر السّبحانيB :«اللطف عبارة عمّا يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية، وقد قسّموا اللطف إلى المقرِّب نحو الطاعة وإلى المحصِّل لها، فلو كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية فهو لطف مُقرِّب، ولو ترتّبت عليه الطّاعة فهو لطفٌ مُحصِّل، وليُعلم أنّه ليس هنا لطفان مختلفان بل كلاهما في الحقيقة أمر واحد . . . والمراد أنّه سبحانه يتلطّف على العبد ـ وراء إعطائه القابلية والقدرة ـ بفعل أُمور يُرغَّب معها إلى الطاعة وترك المعصية، فلو توقّف تحصيل الغرض وراء إعطاء القدرة على فعل المرغِّبات إلى الطاعة وترك المعصية، كان على المُكلِّف القيام به لئلاّ ينتفي الغرض، وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الطوسي ويقول: (واللطف واجبٌ لتحصيل الغرض به) . . . »، يُنظر: رسالة في التّحسين والتّقبيح، مؤسسة الإمام الصادقg ـ قم المقدّسة، 1420 هـ، ط1، ص91.
وقال السيد هاشم الحسيني الطّهرانيO في توضيح المراد: «وأمّا اللطف بمعنى ما يكون المكلف معه أقربَ الى فعل الطّاعة وأبعدَ من فعل المعصية فليس بواجبٍ على الله تعالى مطلقاً؛ لأنّه تعالى يقدر أن يلطف بعباده جميعاً حتّى يكونوا على الطريقة المستقيمة بإهلاك أئمة الضّلال وتأييد أئمة الهدى ولم يفعل، نعم يجب منه ما هو مقتضى جوده ورأفته ولم يكن منافياً لمصلحة النظام الكليّ مع قابلية العبد . . . ». يُنظر: توضیح المراد، المفيد ـ طهران، 1411هـ ق ـ 1365هـ ش، ج1، ص600.
أقول: إضافةً إلى ما تقدّم، فاللُّطف على أقسامٍ باعتبار فاعله ـ كما فُصِّل في علم الكلام ـ فقد يكون الفاعل الله تبارك وتعالى وقد يكون الغير، وبما أنّ الغرض من الإمامة الهداية للنّاس فالإمام لطفٌ وقد خلقه الله تعالى وأعدّه بما يوجب تحصيل الغرض، ثمّ الإمامg بدوره أيضاً يفعل اللُّطفَ بهداية الإُمّة وإرشادها وقيادتها باتّجاه الغاية التي لأجلها خُلق الإنسان ألا وهي عبوديّة اللهa، ومن ثمّ فهذا الأمر واجبٌ على الإمامg بحكم العقل تحصيلاً لذلك الغرض.
[33] العلامة الحليO، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي)، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم المقدّسة، 1417هـ، ط7، ص492.
[39] السبحاني، الشيخ جعفر، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، مؤسسة الإمام الصادقg، قم المقدّسة، ط1، 1421هـ، ص229.
[44] قال تعالى في الآية 101من سورة البقرة: {ولمّا جاءهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون}.
[46] وفي المعجم: «صلم: الصاد واللام والميم أصلٌ واحد يدل على قطع واستئصال. يقال صَلَم أُذُنَه، إذا استأصلها. واصْطُلِمَت الأُذُن . . . والصَّيْلم: الدَّاهية، والأمر العظيم، وكأنّه سمِّى بذلك لأنّه يَصْطَلِم. فأمّا الصَّلَامة، ويقال بالكسر الصِّلَامة، فهي الفِرقة من النّاس، وسمّيت بذلك لانقطاعِها عن الجماعة الكثيرة»، م ن، ج3، ص299.
[47] والمعنى: أعينونا على استنقاذكم ومدّ يد العون لكم، كما يظهر من قوله: «(نوش): النون والواو والشين أصل صحيح يدلّ على تناول الشيء. ونشته نوشا. وتناوشت: تناولت، قال الله تعالى: {وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۢ بَعِيدٖ}، وربما عدُّوه بغير ألف فقالوا: نشته خيراً إذا أنلته خيرا»، م ن، ج5، ص369.
[48] أي: قُضي، قال الفراهيدي: «باب الحاء مع الميم ح م، م ح مستعملان، حم: حم الأمر: قضي. وقدّروا احتممت الأمر اهتممت، قال: كأنه من اهتمام بحميم وقريب. والحمام: قضاء الموت»، الخليل الفراهيدي، العين، مؤسسة دار الهجرة، ط2، 1409هـ، ج3، ص33.
[54] أي التخلّص من الهمّ والغمّ إذا بعثا على اليأس، وقال ابن فارس: «(فصى) الفاء والصاد والياء أصل صحيح يدل على تنحّي الشيء عن الشيء، يقال: تفصّى اللحم عن العظم وتفصّى الإنسان من البلية تخلّص»، يُنظر: معجم مقاييس اللغة، ج4، ص506.
[58] كذا في هذه الطّبعة، وفي غيرها« إحداهما»، فعلى الأوّل مرجعُ الضّمير إلى «المخالف» وعلى الثّاني «طائفتان»، والأمر سهلٌ.
[59] الشيخ الطّوسي، محمد بن الحسن، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، دار الأضواء ـ بيروت، ط 2، 1406هـ، ص296.