قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".

 بين أصالة عدم النقل واطّراد الاستعمال

2021/06/22 

بين أصالة عدم النقل واطّراد الاستعمال
الشيخ حسن فوزي فواز

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

اقتضت حكمة الله تعالى أن يبلغ الدين بما يوافق لسان القوم الذين بعث إليهم النبي، فقال الله تعالى: {ومَا أرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بلِسَانِ قَومِهِ ليُبيِّنَ لهُمْ}[1]، فكانت اللغة هي الوسيلة في بيان الشريعة، ومن هنا نشأ اهتمام علماء الأصول منذ القدم بجملة من المباحث اللغوية.

ثم إنّه من المقرّر في علم الأصول أنّ مناط الحجيّة على الظهور بدليل سيرة العقلاء، وجعلوا لتشخيص صغرى حجية الظواهر جملة من الأصول المسماة بالأصول المرادية، كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق وعدم القرينة، ويقصد من أصالة الحقيقة _ مثلاً _ أنّ ظاهر كلّ متكلّم إرادة المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ بحسب أصل اللغة ما لم تقم قرينة على الخلاف، ومن هنا اهتم الأصوليّون بالبحث عن علامات الحقيقية، أو قل: علامات الوضع؛ باعتبار أنّ تحديد المعنى الموضوع له اللفظ هو الذي يصحح التمسك بأصالة الحقيقة، وبالتالي تحديد الظاهر، فالأصوليّ إذا اهتمّ بعلامات الوضع، فإنـّما اهتمّ بها لتحديد الظهور موضوع الحجيّة. 

هذا، وعند التعرّض لعلامات الحقيقة والوضع ذكر الأصوليّون علامات متعدّدة، وأهمها بحسب ما جاء في الدراسات الأصوليّة من بعد الكفاية علامة التبادر. لكن في البين إشكال مشهور على هذه العلامة، وهو: أنّ جعل التبادر علامة على الوضع مستلزم للدور، وأجيب عنه بأنّ التبادر موقوف على العلم الارتكازي مع كون العلم التفصيلي هو الموقوف على التبادر، فتغاير الموقوف والموقوف عليه. ويقصد من العلم الارتكازي ذلك العلم الذي يكتسبه الإنسان عند معاشرته لأبناء اللغة. 

وهذا الجواب وإن حلّ إشكالية الدور، إلّا أنّه يلفت النظر لإشكاليةٍ أعمق، وحاصلها: أنّ التبادر المتكئ على العلم الارتكازيّ هو تبادر بلحاظ الواقع الذي نعيشه الآن، وهذا العلم الارتكازيّ إنّما ينشأ مع الإنسان بحسب ما يكتسبه من البيئة التي يعيش فيها، فلازم جميع ما ذكر أنّ التبادر سوف يكون للمعنى المكتسب والمستعمل بلحاظ عصر الفرد، وبلحاظ ما يتلقاه من أبناء أمّته، مع أنّ الغرض الأساس للمستنبط من هذه العلامة انسباق معاني الألفاظ المرتكزة في أذهان المعاصرين للنصّ. 

مثلاً: الآن يتبادر إلى أذهاننا من كلمة الوجوب الإلزام، ومن كلمة الكراهة النهي التنزيهيّ، ومن المال خصوص ما كان متمحضاً في الماليّة كالأوراق النقدية، مع أنّ كلمة الوجوب في عصر النصّ إنّما تستعمل في معنى الثبوت الأعمّ من الوجوب والاستحباب، ومن هنا وردت أخبار تدلّ على وجوب غسل الجمعة[2]، والصلاة على رسول الله محمد e وآله في كلّ موطن وعند العطاس والذبائح[3].

وورد التعبير بكراهة سؤر الناصب والكافر والمشرك[4] مع وضوح نجاسة سؤرهم أو سؤر بعضهم، وورد أنّ الله تعالى كره المنّ بعد الصدقة[5] مع أنّه مبطل لها كما في نصّ الآية[6]، وكذا ورد أنّه تعالى كره الرفث في الصوم[7]. وفي الآية: {خُذ مِن أمْوَالِهمْ صَدَقةً}[8] يراد من المال مطلق ما يتموّل به جزماً، ولذا ورد أنّ رسول اللهe وضع الزكاة في التسع المعروفة وفيها لأنعام الثلاثة والغلات الأربعة، وعفا عمّا سوى ذلك[9].

والحاصل: أنّ التبادر في هذا الزمان قد لا يفيد في كثير من الأحيان نقل الذهن إلى المعنى الحقيقي المستعمل فيه اللفظ في تلك الأزمان. ولذا لم تكن علامة التبادر كافية لوحدها، فاحتيج إلى ضمّ شيءٍ زائد معها لتصحيح الاعتماد على ما يتبادر في ذهن العرف في هذه الأزمان، فكان ما يسمّى بـ(أصالة عدم النقل)، ويقصد منها: أنّه في كلّ مورد يشكّ في كون المعنى المتبادر الآن هو عين ما يتبادر في زمن النصّ أم غيره، فمن تبادره الآن نستكشف كونه كذلك في الزمن السابق؛ لأنّ الأصل في المعاني أنّ لا تكون منقولة إلى هذه المعاني المتبادرة الآن، بل هي معانيها الأصلية.

وبعبارة واضحة: موضوع الحجيّة عند الأعلام قديماً وحديثاً الظهور في عصر صدور النصّ لا في عصر الوصول، وجعل الظهور في عصر الوصول كاشفاً عن الظهور في عصر الصدور بحاجة في كثير من الأحيان إلى ضمّ أصالة عدم القرينة، ولذا جعل الشهيد الصدرS استناد الأعلام على أصالة عدم النقل دليلاً على كون موضوع الحجيّة عندهم ظهور عصر الصدور كما في تقريرات بحثه[10].  

وممّا تقدّم تعرف أهميّة البحث عن أصالة القرينة وحجيتها وموارد تطبيقها، والمقصود من هذه المقالة جمع المهم من النكات المذكورة في كلمات الأعلام _ بحسب ما وصل إليه نظري _ في تقريبهم لأصالة عدم النقل، وإبداء إمكانية الاستعاضة عنها بما قد يسمّى بـ(اطّراد الاستعمال)، ولا نخوض فيما يذكر من استثناءات لعدم إجراء تلك الأصالة. 

هذا، وسوف نبحث هذه المسألة في فصول ثلاثة:

الفصل الأوّل: في بيان ما ذكر من أدلّة على حجيّة أصالة عدم النقل، فنذكر فيه المهم من النكات المذكورة في كلمات الأعلام، مع ما يمكن أن يكون محلّاً للإشكال على تلك الوجوه.

الفصل الثاني: اقتراح بديل عن أصالة عدم وهو ما يسمّى بـ(اطّراد الاستعمال). 

الفصل الثالث: في بيان بعض التطبيقات التي تظهر أرجحيّة الاعتماد على اطّراد الاستعمال.

الفصل الأوّل: أصالة عدم النقل في كلمات الأعلام

تعرّض الأعلام لمسألة أصالة عدم النقل عَرَضاً في ضمن جملة من أبحاث علم الأصول، أوّلها ما يذكر عند الحديث عن علاميّة التبادر على الوضع؛ لِمَا عرفت أنّ هذه العلامة لا تفيد كون المعنى الموضوع له زمن النصّ هو عين المعنى الموضوع له زمن حصول التبادر، إلّا بضمّ أصالة عدم القرينة. وأيضاً يذكرونها عند الحديث عن تعارض الأحوال، أو عند الحديث عن الأصول المرادية، أو عند الحديث عن الاستصحاب واشتراط تقدّم اليقين على الشكّ، وعبائر الأعلام عند بيان الدليل على حجيّة أصالة عدم النقل وإن كان فيها شيء من التشتّت، إلّا أنّه يمكن إرجاعها بنظرةٍ فاحصةٍ إلى تخريجات ثلاثة: 

1. إرجاع أصالة عدم النقل إلى الاستصحاب القهقري

ولعلّ هذا المعنى هو الأكثر تردّداً في كلمات الأصوليين، حيث يجعلون أصالة عدم النقل من قبيل الأصول التعبّدية الراجعة للاستصحاب القهقري أو الاستصحاب المعكوس، والدليل على حجيّة هذا الأصل يمكن أن يقرّب بوجوه بعد وضوح عدم شمول أدلّة الاستصحاب الروائية؛ فإنّ قوامها تقدّم اليقين وتأخر الشكّ[11]:

الوجه الأوّل[12]: أنّ حجيته من باب حجيّة مطلق الظنّ، بدعوى أنّ الحجّة من الأصل والاستصحاب في المقام هو ما أفاد الظنّ بالوضع، ومعه فالوجه في الحجيّة ظاهر؛ لبناء الأمر في مباحث الأوضاع على‏ الظنون؛ لانسداد طريق العلم فيها غالباً.

الوجه الثاني: أنّ حجيّة الاستصحاب القهقري في موارد احتمال النقل دليله سيرة العقلاء.

قال السيّد الخوئيS كما في تقريرات بحثه عند بيانه لعدم حجيّة الاستصحاب القهقري: (فهذا الاستصحاب لا يكون حجة إلّا في موضع واحد، وهو ما إذا كان معنى اللفظ متيقّناً في العرف فعلاً وشكّ في أنّه هل كان في اللغة أو عرف الأئمة عليهم السلام كذلك أم لا، فيحكم بكون اللفظ حقيقةً في اللغة وعرف الأئمة عليهم السلام أيضاً بأصالة عدم النقل. وحجيّة هذا الاستصحاب في خصوص هذا المورد ثابتة ببناء العقلاء، ولولا حجيّته لانسدّ علينا باب الاستنباط؛ لاحتمال كون ألفاظ الأخبار في عُرفهمi ظاهرة في غير ما هي ظاهرة فيه في عرفنا الحاضر، وكذا ألفاظ التسجيلات المذكورة في كتب القدماء)[13].

هذا، ولا يخفى أنّ ما ذكر أخيراً من عند قوله: (ولولا حجيّته. . .) مجرّد شاهدٍ على قيام سيرة العقلاء، وإلاّ فمن غير الواضح أنّه في مقام بيان أنّ السيرة قائمة على حجيّة الاستصحاب القهقري من باب الانسداد، ولو كان هو المقصود لرجع إلى الوجه السابق. 

هذا، قد أكّد السيّد الخوئيS على قيام هذه السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب بما نجده من سيرة الأعلام في الفقه، فقال على ما في بعض تقريرات بحثه الفقهية: (هي [يعني أصالة عدم النقل] أصل عقلائي يعوّل عليه في تشخيص مفاد الكلمات المحرّرة في السجلات منذ قرونٍ متمادية، ولا يُعتنى باحتمال إرادة معنى آخر ما لم يثبت خلافه، استناداً إلى الأصل المزبور؛ فإنّه لو لم يجرِ في المقام لم يجرِ في بقية الموارد بمناطٍ واحدٍ، فيختلّ باب استنباط الأحكام، وقد بنى فقهاؤنا العظام على كشف مقاصد الأئمةi مما يفهمونه من الألفاظ في عصرهم، ولا يبالون باحتمال النقل المدفوع بالأصل)[14].

أقول: أمّا بالنسبة لِمَا ذُكر أوّلاً من تخريج حجيّة الأصل في المقام من باب حجيّة مطلق الظنّ على الانسداد، فهو فرع الاعتراف بانسداد الباب وعدم وجود أصل عقلائي في المقام، وهو أوّل الكلام، وسوف تعرف _ إن شاء الله تعالى _ أنّ الباب غير منسدّ، ولو لم نقل بحجيّة أصالة عدم النقل. 

وأمّا ما استدلّ به السيّد الخوئيS من السيرة العقلائيّة، فإن كان المقصود من ذلك أنّ العقلاء يعملون في المقام بأصالة عدم النقل كأصل تعبّدي فجوابه عدم علمنا بوجود أصول تعبّدية عن العقلاء بهذا المعنى، وإن كان المقصود أنّ السيرة العقلائية على العمل بأصالة عدم النقل من جهة الكاشفية، فلا بدّ أن يكون تقريبها بأحد الأمور التي ننقلها _ إن شاء الله تعالى _ في ضمن التخريج الثالث، الراجعة عادة لنكتة الغلبة كما هو الطبع العقلائي في كواشفهم، ومن غير الواضح أن تكون النكتة في ذلك ما يسمّى بالاستصحاب القهقرى، وسوف يأتي _ إن شاء الله تعالى _ نقل عبارة عن المحقق العراقي قدس سره تدفع هذا البيان.

2. إرجاع أصالة عدم النقل لأصالة الظهور

وهو ما يمكن استظهاره من عبائر الشيخ المظفر قدس سره في أصوله[15] من إرجاعه أصالة عدم النقل إلى أصالة الظهور، وهو غير واضح البتة؛ إذ لم نفهم كيفيّة إرجاع أصالة عدم النقل إلى أصالة الظهور، فلا يُقال: إنّ ظاهر المتكلّم عدم النقل؛ لأنّ النقل من شؤون عالم الوضع دون المراد؛ فإنّ أصالة عدم النقل تحدد كون المعنى المستظهر هو عين الموضوع له اللفظ سابقاً، يعني يلحظ فيها عالم الدلالة التصوريّة، وأصالة الظهور تحدّد المراد في عالم الدلالة التصديقيّة.

3. أنّ أصالة عدم النقل أصل عقلائي مستقلّ

وقد يعبّر عنها بأصالة الثبات في اللغة أو تشابه الأزمان أو اتحاد العرفين، وكلّها معانٍ تشير إلى شيء واحدٍ مع الالتفات إلى بعض هذه الإطلاقات لا سيما التعبير بـ(أصالة تشابه الأزمان) قد تطلق على الاستصحاب القهقرى[16].

ولعلّ أفضل من بيّن استقلال هذا الأصل هو المحقق العراقيS؛ فإنّه قد ذكر على ما في موضع من تقريرات بحثه، وعند الحديث عن تصحيح علامة التبادر أنّ علامة التبادر لا تكاد تجدى في مقام الاستنباط إلّا إذا انضمّ إليها أمر آخر، وهو أصالة عدم‏ النقل‏ المعبّر عنها بـ(أصالة تشابه الأزمان) كي يثبت بها كون المعنى المتبادر في سابق الزمان أيضاً هو المعنى المتبادر عندنا. ولا مانع من إجراء الأصل المزبور بعد كونه من الأصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم[17].

وفي موضع آخر من تقريرات بحثه وعند الحديث عن دعوى وقوع التسالم على حجيّة الاستصحاب في الأمور العدمية قال: (لعلّ منشأ ذلك ملاحظة تسالمهم على بعض الأصول العدمية، كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم‏ النقل‏ وأصالة عدم المعارض والمزاحم ونحوها مما جرت السيرة على الأخذ بها، فتخيّل أنّ ذلك من جهة وفاقهم على حجيّة الاستصحاب في مطلق الأمور العدمية، وأنّ المذكورات من موارد الاستصحابات العدمية وصغرياتها. ولكنّه كما ترى، لا ترتبط تلك الأصول العدمية بالاستصحاب المصطلح، وإنّما هي أصول عقلائية برأسها جارية في الموارد الخاصّة)[18].

وما عبّر عنه المحقق العراقيO بأصالة تشابه الأزمان، عبّر عنه الشهيد الصدرO على ما في تقريرات بحثه بـ(أصالة ثبات اللغة أو الظهورات)، والثاني أعمّ من الأوّل؛ فإنّهO يدّعي أنّ أصالة الثبات لا تقتصر على الأوضاع اللغوية، بل تشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعيّة أيضاً[19].

قالO على ما في تقريرات بحثه: (لا ينبغي الإشكال في انعقاد السيرة على هذا الأصل، ولها مظهران أحدهما عقلائي، والآخر متشرعي، والمظهر العقلائي يمكن تحصيله في مثل ترتيب العقلاء آثار الوقف والوصية ونحوهما على النصوص والوثائق القديمة في الأوقاف والوصايا طبق ما يفهمه المتولي في عصره، ولو كان بعيداً عن عصر الوقف. 

والمظهر المتشرعي يمكن تحصيله من ملاحظة أنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يعملون بالنصوص الأوليّة من القرآن والسنة النبوية الشريفة وفق ما يستظهرون منه في عرفهم وزمانهم كما كان يصنع أسلافهم، مع أنّه كان يفصلهم عنهم زمان يقارب ثلاثة قرون وقد كانت فترة مليئة بالحوادث والمتغيرات.

ونكتة هذه السيرة وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النقل والتغيير وبطئه، بحيث إنّ كلّ إنسان عرفي بحسب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللغة؛ لأنَّ عمر اللغة أطول من عمر كلّ فرد، فأدّى ذلك إلى أنّ كلّ فرد يرى أنّ التغيّر حادثة على خلاف الطبع والعادة. وحينئذٍ إمّا أنْ يفترض أنّ الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النقل والتغيير في الظهورات السابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجروا أصالة الظهور أو أنّهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرة وعملوا بما يفهمونه من الظهورات، فعلى الأوّل يكون بنفسه دليلاً على حجيّة أصالة الثبات شرعاً، وعلى الثاني فنفس الغفلة في مثل هذا الموضوع تعرضهم لتفويت أغراض الشارع لو لم تكن أصالة الثبات حجة فسكوت المعصوم عليه السلام، وعدم تصديه لإلفاتهم دليل على إمضاء هذه الطريقة وكفاية الظهور الذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور الموضوعي المعاصر لصدور الكلام)[20].

نعم، وبما أنّ أصالة عدم النقل صارت من الأصول العقلائية، فالعقلاء في ديدنهم العامّ لا يعملون بالأصول في صورة قيام احتمال معتدّ به على الخلاف، ولذا قال الشهيد الصدر قدس سره بأنّ أصالة عدم‏ النقل‏ العقلائية لا يحرز ثبوتها في موارد يكون مقتضي النقل مؤكداً في نفسه[21]. هذا مضافاً إلى عدم جريانها في صورة العلم بالنقل والشك في التقدّم والتأخر، ولا نريد في هذه المقالة الخوض في تطبيقات تلك الأصالة؛ فإنّ له مقاماً آخر.

أقول: هذا المعنى المذكور في كلمات هذين العلمين وجدته في ضمن عبائر المحقق النراقي (م1245هـ ق) في عائدته السادسة وخمسين، تحت عنوان: (عائدة في بيان أصالة اتّحاد العرفين أو أصالة عدم النقل والاشتراك)[22]، فقال في مقدّمتها: (قد دارت على ألسنتهم أصالة اتّحاد العرفين، وموضع استعمالهم ذلك الأصل إنّما هو فيما إذا لم يعلم للّفظ معنى آخر غير ما يعلم له مشتركاً بينهما، أو منقولاً عن أحدهما إلى الآخر). لكنّه ذكر أنّ دليله حينئذٍ أصالة عدم الاشتراك، وعدم النقل، وعدم تعدد المعنى.

وعلى كلّ، فالملفت للنظر أنّه وفي ضمن هذه العائدة قال: (وربما يستدلّ له تارةً ببعد تغيّر العرفين في ذلك الزمان القليل. وأخرى بالغلبة، أي: الغالب في الألفاظ الجارية على ألسنة المتشرعة اتّحاد معناها المتبادر حينئذٍ مع معناها المتبادر في زمان الشارع. وثالثةً بكون ذلك طريقة العلماء وسيرة الفقهاء، بل كلّ أحد، فإنّا نراهم يحملون ألفاظ الكتب المصنّفة في أزمنة قبل هذا الزمان إلى زمان الشارع، على ما يفهمون منها في هذا الزمان)[23]، ثم شرع بمناقشة هذه الوجوه. والتعبير بـ(ببعد تغيّر العرفين والغلبة) هو عين النكتة المذكورة في كلمات الشهيد الصدرO. 

وكيف كان، فهذا الوجه إنّما يمكن قبوله على تقدير إثبات سيرة عقلائية أو متشرعيّة متصلة بزمن المعصومين عليهم السلام، وهو موقوف على إثبات تحقق نقل في الألفاظ التي هي موضع ابتلائهم، مع كون السبب في اعتمادهم على ما يفهمونه في عصر الوصول ليس إلّا إجراء أصالة عدم النقل التي توحيها ظاهرة الثبات في اللغة.

وفيه: أنّ الكلام في اللغة العربية، وقد كانت موضع ابتلاء عامّ لأبناء اللغة من العقلاء والمتشرّعة في عصر الأئمة عليهم السلام، وللغة العربية ميزة عامّة لا سيّما في الأزمان القديمة؛ باعتبار أنّ الطبع العربي كان محافظاً على تراثه الأدبي إن كان النظر إلى سيرة العقلاء، وكان محافظاً على إرثه القرآني إن نظرنا إلى سيرة المتشرعة، وهذا التحفظ على التراث يفتح الباب على نكتة أشار إليها المحقق النراقيO وهي أنّ الحمل على الألفاظ لم يكن بلحاظ ما يفهم في عصر الوصول، بل باعتبار اطلاعهم على الاصطلاح والمعنى في عصر الصدور. 

قال النراقيO عند ردّه لدعوى وجود سيرة للعلماء والفقهاء تناظر ما يدّعى من أصالة عدم النقل: (إنـّا نمنع كون ما ذكره طريقة العلماء وسيرة الفقهاء. وأمّا ما ترى من حملهم ألفاظ الكتب المؤلّفة في سوابق الأزمان على ما يحملون، فهو ليس من باب حملهم على عرف أنفسهم وعهدهم وزمانهم، وعلى متفاهمهم والمتبادر عندهم، بل نسبتهم إلى ما في هذه الكتب من الألفاظ واستعمالاتها كنسبة أهل علم النحو من هذا الزمان إلى مصطلحات النحاة، ونسبة أهل علم الحساب إلى مصطلحات الحسابيين، وهكذا، فإنّ لهم بالنسبة إلى ألفاظ تلك الكتب اصطلاحاً وراء اصطلاح أهل زمانهم وعهدهم.

بيان ذلك: أنّ العلماء والفقهاء، بل أهل كلّ علم بالنسبة إلى ألفاظ الكتب لهم اصطلاح وراء اصطلاح أهل زمانهم، بل هم من بدو أمرهم ومبدأ تعلّمهم دخلوا تلك الكتب، وتعلّموا اصطلاحاتها ومعاني ألفاظها من معلّميهم وأساتيذهم، الذين هم أيضاً أخذوها من أساتيذهم، وهكذا، وحصل لهم اصطلاح وراء اصطلاح أهل عصرهم، بل هو حقيقة اصطلاح أهل زمان التأليف الواصل إليهم يداً بيد، فهم بعينهم أهل زمان المؤلفين)[24].

هذا، ويكفينا في الإشكال الشكّ في المقام، وإلاّ فالسيرة دليل صامت، وكما يمكن أن تكون ناشئة مما يذكر توهم الثبات يمكن أن تكون ناشئةً من جهة الاطلاع على أوضاع اللغة زمن صدور النصوص الشرعية أو الأدبية. 

ومن جميع ما تقدّم تعرف الإشكال في دعوى ما يسمّى بأصالة عدم النقل، وسوف نحاول في الفصل اللاحق الاستعاضة عنها باطّراد الاستعمال.

الفصل الثاني: اطّراد الاستعمال

الاطّراد لغةً بمعنى التتابع والجري، يُقال اطّرد الأمر إذا تبع بعضه بعضاً وجرى، يقال: اطرد الشيء اطّراداً إذا تابع بعضه بعضاً[25].

وأمّا اصطلاحاً فالاطّراد على عدّة أنواع يجمعها قولنا: (كلّما وجد اللفظ وجد المعنى). ونحن نقصد في هذه المقالة ما يطلق عليه اسم (اطّراد الاستعمال) أي صحة استعمال اللفظ في المعنى ضمن استعمالات عديدة وموارد مختلفة مع إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة على المجاز.

وعادةً ما يشكل على جعل اطّراد الاستعمال من علامات الحقيقة بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، وكما يجوز أن يكون الاطّراد اطّراداً للمعنى الحقيقي يمكن أن يكون اطرداً للمعنى المجازي.

أقول: قد جاء في كلمات السيّد المرتضىO عند سرده لعلامات الحقيقة قوله: (ويتلوه [أي يتلو نصّ أهل اللغة] في القوّة أن يستعملوا [يعني أهل اللغة] اللفظ في بعض الفوائد، ولا يدلّونا على أنّهم متجوّزون بها مستعيرون لها، فيعلم أنّها حقيقة، ولهذا نقول: إنّ ظاهر استعمال أهل اللغة اللفظة في شيء دلالة على أنّه حقيقة فيه، إلّا أن يَنقُلنا ناقل عن هذا الظاهر)[26].

وهذه العبارة قد يفهم منها كون المقصود جعل الاستعمال _ مطلق الاستعمال _ علامة على الحقيقة، والصحيح أنّه لا يريد _ بحسب الظاهر _ استفادة المعنى الحقيقي من مجرّد رؤية استعمال واحد لكي يشكل عليه بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، بل يريد أنّ شيوع الاستعمال واطّراده من دون نصب القرائن دليل على تحديد المعنى الموضوع له اللفظ بعد أن كان الإبهام على خلاف الأصل.

وبيانه: أنـّنا نريد استنباط معاني النصوص التي صدرت منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فنقول: نريد من اطّراد الاستعمال شيوعه، فنستدلّ من شيوع الاستعمال من دون قرينة في معنى من المعاني على كون اللفظ موضوعاً للمعنى الشائع حقيقة، وما يذكر من أنّ صحة الاستعمال في المعنى المجازي غير موقوفة على وجود قرينة وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه لا إشكال في اعتبار القرينة في مقام التفهيم، وغالب الاستعمالات تكون في هذا المقام، وإلاّ فلا يعقل كثرة الاستعمال في المعنى المجازي من دون قرينة؛ فإنّ تعلّق الغرض بالإبهام نادر الوجود وخلاف ما عليه بناء العقلاء؛ فإنّ الغاية الأولى للكلام ليست إلّا الكشف عمّا في الضمير.

وهذه الطريقة قد اتبعها الفقهاء في استنباطاتهم كما هو الحال عند بحثهم عن تحديد معنى (السؤر)[27] وأنّه مطلق ما باشره جسم حيوان أم خصوص البقية المأخوذ منها للشرب أو الأكل أو الوضوء.

وأيضاً ففي بحث الاستنجاء[28] حيث ورد الحكم باستثنائه من الحكم بنجاسة ماء الغسالة مع نصّ أهل اللغة باختصاص الاستنجاء بما لو كان التطهير لموضع الغائط بحيث لا يشمل البول، فيحكم بالتعميم للاستنجاء من البول عبر تتبع بعض استعمالات الأخبار بحيث يستفاد تعارف إطلاق الاستنجاء على تطهير موضع البول.

وقد سلك بعض الفقهاء[29] هذا الطريق لتحقيق المراد من الآنية الواقعة موضوعاً لأحكام خاصّة كآنية الذهب والفضة ولزوم غسلها ثلاثاً عند إرادة تطهيرها.

وقد سلك هذا الطريق أيضاً في بحث الزكاة[30] حيث يراد إثبات اختصاص كلمة المال الواردة في أخبار الصادقينh في خصوص ما كان متمحضاً بالماليّة، بحيث لا يشمل مطلق ما يتموّل به، فيستفاد ذلك عبر تتبع الأخبار وانصراف خصوص النقدين عند إطلاق هذه اللفظة في كلمات الأئمةi وأصحابهم.

وقد ذكر الشيخ المظفر [31] في حجيّة الظواهر عند الحديث عن طرق إثبات الظواهر أنّ أحد الطرق تتبع الباحث استعمالات العرب، فيعمل رأيه واجتهاده إذا كان من أهل الخبرة باللسان والمعرفة بالنكات البيانيّة، ونحن نريد أن الطريق الأفضل في معرفة معاني الكلمات وما ينصرف إليها تتبع استعمالات نفس الأخبار؛ فإنّها تبيّن بنحو من الأنحاء الواقع اللغوي في تلك الأزمان.

نعم، اطّراد الاستعمال قد لا يثبت بنفسه الوضع، لكنّه بلا إشكال يحقق المعنى الظاهر مباشرة، وكنّا قد أشرنا في أوّل هذه المقالة أنّ المقصود الأساس من إجراء علامات الحقيقة تحصيل الظهور زمن النصّ، فإذا أمكن تحصيل ذلك الظهور مباشرة فلا حاجة لتحديد المعنى الحقيقي للفظ.

والمتحصّل: أنّ اطّراد الاستعمال أو قل: تتبع استعمالات عصر النصّ _ ومنها ما يذكر في كتب اللغة القديمة _ في مفردة من المفردات يعطي المستنبط فهماً واضحاً للمعنى المنصرف إليه اللفظ زمن النصّ، وهذا كافٍ في مقام الاستظهار وإن لم نحرز كون المعنى المنصرف إليه اللفظ هو المعنى الحقيقي. وهذه العلامة هي الأولى بالاتباع ولو قبلنا بأصالة عدم النقل؛ لأنّها المورثة للوثوق، بخلاف أصالة عدم النقل التعبدية إن أرجعناها إلى الاستصحاب القهقري أو المبتنية على عدم الشعور بالتغيّر الذي هو عبارة أخرى عن الغفلة على ما عرفت.

الفصل الثالث: في بعض التطبيقات

نريد في هذا الفصل أن نشير لبعض التطبيقات التي يظهر فيها الفرق بين الاعتماد على التبادر وأصالة عدم النقل والاعتماد على اطّراد الاستعمال مع عدم قصدنا إلى الإشكال على الأعلام، بل ما نذكره إنّما هو من باب المثال لا أكثر. 

وسوف نبدأ في هذا التطبيق بذكر (الجهل) كمثال، ثم ننطلق منه إلى بيان معنى (العقل) حيث يكثر في الأحاديث المقابلة بينهما، وتوضيحه: أنّه لا إشكال في أنّ المتبادر في هذه الأيام من كلمة (الجهل) عدم العلم، وهو ما نعثر عليه في جملة من كتب اللغة، فالجهل هو ما يقابل العلم مع وقوع الاختلاف في التعبير عن طبيعة هذا التقابل بينهما، فعبّر بعضهم بالتناقض وأنّ الجهل نقيض العلم[32]، وآخر عبّر بالتضاد وأنّ الجهل ضدّ العلم[33]، ولا بأس بهذه التعابير بعد أن كانت في مقام بيان أصل التقابل بين المعنيين، ولذا عبّر في الصحاح[34] بـ(الجهل خلاف العلم)، وإلاّ فلو أريد التعبير المنطقي لكان ينبغي أن يُقال بأنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

هذا بحسب التبادر وكلمات بعض اللغويين، لكن من تتبع استعمالات الكتاب والسنّة بل والشعر العربي قد يجد شيئاً آخر، وأنّ الجهل ولو في أحد استعمالاته المعروفة بمعنى السفاهة وعدم التروي:

أمّا بلحاظ الاستعمال القرآني، فإنّ هذه المادّة أعني (ج _ هـ _ ل) قد استعملت في القرآن في أربعة وعشرين مورداً على ما هو موجود في بعض المعاجم المفهرسة للكتاب الكريم، ولولا خوف الإطالة لنقلناها بأجمعها لترى أنّ الجهل في القرآن لا يقابل فيها بالعلم، لكن لا بأس بذكر بعضها ويقاس ما لم نذكره عليها. فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لقَومِهِ إنَّ اللهَ يأمُرُكُم أنْ تَذبَحُواْ بَقَرَة قَالُواْ أتتَّخِذُنَا هُزُوا قَالَ أعُوذُ باللهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِليْنَ}[35] أي من السفهاء الذين يتخذون الناس هزواً وينسبون إلى الله تعالى ما لا يليق.

ونظيره قوله تعالى حكاية عن لسان يوسف:{قَالَ رَبِّ ٱلسِّجنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدعُونَنِي إلَيْهِ وإلّا تَصرِف عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِّنَ الجَاهِليْنَ}[36].

ومنها الآيات التي ورد فيها عنوان الجاهليّة[37]، فإنّ أحكام الجاهليّة هي أحكام السفه المقابلة للحكمة والتعقّل، لا ما يقابل العلم.

ومنها قوله تعالى: {وجاوَزْنَا ببَنِي إسْرَائيلَ البَحرَ فأتواْ عَلَى قَوْمٍ يَعكُفُونَ عَلَى أصنَامٍ لَّهُم قَالُواْ يا مُوسَى اجعَلْ لنَا إلهاً كمَا لهم آلِهَة قَالَ إنَّكُم قَوْمٌ تَجهَلُونَ}[38].

ومنها قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأمُر بالعُرفِ وَأعرِضْ عَنِ الجَاهِليْنَ}[39]، فالجاهل لا بدّ من الإعراض عنه، وأنت خبير أنّ من لا يعلم لا يعرض عنه، بل ينبغي أن يُعلَّم.

ومنها الآيات التي ذكرت ارتكاب الذنوب بجهالة كقوله تعالى:{إنَّما التّوْبَةُ عَلَى الله للَّذِينَ يَعمَلُونَ ٱلسُّوءَ بجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِم وكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً}[40].

نعم، قوله تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الذِيْنَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَستَطِيعُونَ ضَربا فِي الأرضِ يَحسَبُهُمُ الجَاهِلُ أغنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعرِفُهُم بسِيمَاهُم لَا يسألون النَّاسَ إلحَافاً ومَا تُنفِقُواْ مِن خَير فإنَّ ٱللهَ بهِۦ عَلِيمٌ}[41] يُحتمل فيه إرادة عدم العلم، لكنّه غير متعيّن، فإنّه يحتمل قويّاً أن يكون المراد من الجاهل من يتسرَّع في حكمه حيث ينتقل من الظاهر وهو التعفّف إلى الباطن وهو الغنى مع أنّه لازم أعمّ.

وقد التفت ابن فارس (م395هـ ق) إلى هذا الأمر، فقال في معجمه: (الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم، والآخر الخِفّة وخِلاف الطُّمأنينة. فالأوّل الجهل نقيض العلم. ويقال للمفازة التي لا عَلَمَ بها مَجْهَلٌ. والثاني قولهم للخشبة التي يحرك بها الجَمْرُ مِجْهَل، ويقال استجهلت الرِّيحُ الغُصْنَ، إذا حركَتْه فاضطَرَب. ومنه قول النابغة:

دعاك الهوى واستجهلتك المنازل            وكيف تصابى المرء والشيب شامل

وهو من الباب؛ لأنّ معناه استخفّتْك واستفزَّتك)[42].

أقول: ومن المأثور عن عمرو بن كلثوم (م39 ق هـ) قوله في معلقته: 

ألا لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا              فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وعلى كلّ، فالجهل في اللغة على أدنى تقدير غير مختصّ بعدم العلم، بل كثيراً ما يطلق ويراد منه ما يرادف السفه والحمق وعدم الاتزان في السيطرة على الأفعال.

وإذا عرفت هذا انفتح لك الباب لمعرفة الوجه في مقابلة الجهل بالعقل في الأخبار، والكتاب الأوّل من كتاب الكافي معنون بـ(كتاب العقل والجهل) لا العلم والجهل. 

وبيانه: أنّ المتبادر من معنى العقل في هذه الأيام تلك القوّة المدركة وبعض أهل الاصطلاح قد يفسّرها بالصادر الأوّل، لكن في لغة العرب العقل يقابل الجهل أي الحمق والسفاهة وعدم التروي في الفعل، لا عدم العلم. ففي كلمات الفراهيدي م(175هـ ق)[43] أنّ العقل نقيض الجهل، وقد نقل الزبيدي (م1205هـ ق)[44] عن المحكم _ أي المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (م458هـ ق) _ أنّ العقل ضدّ الحمق. فالعقل المقابل للجهل بمعنى القوّة التي تقتضي الاتزان عن الوقوع في الخطأ اعتقاداً وعملاً، وهذا المعنى هو المناسب لاشتقاقات العقل، ولعلّه يظهر بوضوح من قوله تعالى: {ولَئِن سَألْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فأحيَا بهِ الأرضَ مِن بَعدِ مَوتِهَا ليَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحمْدُ للهِ بَل أكْثَرُهُم لَا يَعقِلُونَ}[45] فإنّهم بلا إشكال يعلمون من خالقهم، لكنّهم لا يعقلون.

ومنه عقل الدابة بمعنى ربطها، وسميت العاقلة _ المذكورة في كتاب الديات _ عاقلة؛ لأنّ أهل القاتل كانوا يعقلون الإبل في فناء دار أولياء المقتول. ومن هنا قال ابن فارس (م395هـ ق): (العين والقاف واللام أصلٌ واحد منقاس مطرد، يدلُّ عُظْمُه على حُبْسة في الشَّي‌ء أو ما يقارب الحُبْسة. من ذلك العَقْل، وهو الحابس عن ذَميم القَول والفِعل)[46] فالعقل حابس ومانع، لا مجرّد مدرك. 

وقد جاء في تحف العقول قول رسول اللهe: (إنّ العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب؛ فإن لم تعقل حارت، فالعقل عقال من الجهل)[47].

نعم، قد تستعمل هذه المادة لا سيّما عند اشتقاق الفعل منها بمعنى الفهم والإدراك، كما هو الظاهر من قوله تعالى: {أفلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرضِ فتكُونَ لَهُم قُلُوب يَعقِلُونَ بِهَا أو آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فإنَّهَا لَا تَعمَى الأبصارُ ولكن تَعمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ}[48]، فليتأمّل.

وكيف كان، فلا ينبغي الشكّ في إطلاق هذه المادة (ع _ ق _ ل) على القوة التي تقتضي الاتزان، فهي قوّة عاملة لا أنّها مدركة كما هو مشهور بين المناطقة والفلاسفة ومن تابعهم من الأصوليين، وهو ما كان يؤكّد عليه الشيخ مهدي النراقيO في جامع السعادات[49].

وهو الظاهر من قولهg: (العقل ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان)[50]، وقولهg: (قاتل هواك بعقلك)[51].

وعلى كلّ، فما نريد التأكيد عليه أنّ العقل ليس بالضرورة بمعنى الإدراك، بل يُطلق على قوّة تقتضي الاتزان. 

هذا حاصل ما أردنا ذكره في هذه العجالة، وقد اتضح من خلال هذا التطبيق مدى أهمية تتبع استعمالات الكتاب والسنّة والعرف زمن النصّ، وعلاقته بتشخيص الظهور زمن النصّ، وكيف أنّه صالح كبديل عمّا يسمّى بأصالة عدم النقل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] إبراهيم، 4. 

[2] ينظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ط 6، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1375 هـ ش، ج3، ص41. 

[3] ينظرالحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ط2، مؤسسة آل البيتi لإحياء التراث، بيروت، 1424هـ ق، ج7، ص203 و204، باب 42 من أبواب الذكر ح8. 

[4] الكافي، مصدر سابق، ج3، ص11. 

[5] م ن، ج4، ص22. 

[6] البقرة، 264.

[7] الكافي، مصدر سابق، ج4، ص89. 

[8] التوبة، 103.

[9] وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9، ص53، باب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح1.

[10] الحائري، السيد كاظم، مباحث الأصول (القسم الثاني _ تقريرات بحث الشهيد الصدر)، ط 1، قم المشرّفة، 1408هـ ق، ج2، ص188.

[11] ينظر: الكاظمي الخراساني، محمد علي، فوائد الأصول، ط 8، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرّفة، 1424هـ ق، ج4، ص316 و317. حيث قال المحقق النائينيS على ما في تقريرات بحثه: (فإنّ الظاهر من قولهg: (لا تنقض اليقين بالشكّ) هو عدم نقض المتيقّن بما له من الآثار بالشكّ في بقائه، وهذا المعنى يتوقّف على سبق زمان المتيقّن؛ إذ مع سبق زمان الشكّ لا يرتبط الشكّ في مبدأ حدوثه باليقين الحاصل في الزمان الحاضر؛ فإنّ عدم البناء على حدوث المتيقّن في الزمان السابق على زمان اليقين بوجوده لا يعدّ نقضاً لليقين بالشكّ، بل الأمر في الاستصحاب القهقرى بالعكس يكون من نقض الشكّ باليقين لا نقض اليقين بالشكّ. وبالجملة: لا إشكال في أنّ مفاد الأخبار الواردة في الباب يقتضي سبق زمان المتيقّن والشكّ في بقائه؛ وهذا المعنى أجنبيّ عن استصحاب القهقرى، فالقائل بحجيّته لا بدّ له من أن يلتمس دليلاً آخر غير روايات الباب). 

[12] ينظر: الأصفهاني النجفي، محمد تقي بن عبد الرحيم، هداية المسترشدين، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرّفة، 1429هـ ق.

[13] البهسودي، السيد محمد سرور الواعظ الحسيني، مصباح الأصول (المطبوع ضمن الموسوعة)، لا ط، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1422هـ ق، قم المشرّفة، ج48، ص9.

[14] البروجردي، الشيخ مرتضى، المستند في شرح العروة الوثقى (المطبوع ضمن الموسوعة) ط 2، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1426هـ ق، قم المشرّفة، ج12، ص188.

[15] ينظر: المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، ط 5، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرّفة، 1430هـ ق، مج1، ص75 و76، تحت عنوان (الأصول اللفظيّة).

[16] ينظركلانتري، أبو القاسم، مطارح الأنظار (تقريرات بحث الشيخ الأنصاري)، ط 2، مجمع الفكر الإسلامي، قم المشرّفة، 1425هـ ق، ج4، ص13.

[17] البروجردي النجفي، محمد تقي، نهاية الأفكار (تقريرات بحث المحقق العراقي)، ط 3، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرّفة، 1417هـ ق، ج1، ص67.

[18] م ن، ج4 (القسم الأوّل)، ص27.

[19] ينظر: الهاشمي، السيّد محمود، بحوث في علم الأصول (تقريرات بحث الشهيد الصدر)، ط 3، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، قم المشرّفة، 1417هـ ق، ج4، ص293. 

[20] م ن، ص294.

[21] م ن، ج1، ص206.

[22] النراقي، المولى أحمد بن محمد مهدي، عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام، ط 1، دفتر تبليغات الإسلامي، قم المشرّفة، 1417هـ ق، ص589. 

[23] م ن، ص589 و590. 

[24] م ن، ص591 و592. 

[25] ينظر: ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، ط 1، انتشارات دفتر تبليغات، قم المشرّفة، 1404هـ ق، ج3، ص455. 

[26] المرتضى، السيّد علي بن الحسين، الذريعة إلى أصول الشريعة، ط1، مؤسسة النشر والطباعة في جامعة طهران، طهران، 1418هـ ق، ج1، ص13.

[27] ينظر: الهمداني، رضا بن محمد هادي، مصباح الفقيه، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المشرّفة، 1416هـ ق، ج1، ص353.

[28] ينظر: الخميني، السيد مصطفى، كتاب الطهارة، لا ط، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، لا ت، ج2، ص128.

[29] ينظر: الحكيم، السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى، ط 1، مؤسسة دار التفسير، قم المشرّفة، 1416هـ ق، ج2، ص173 و174.

[30] ينظر: الهاشمي، السيد محمود، بحوث في الفقه _ كتاب الزكاة، ط 1، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيتi، قم المشرّفة، 1432هـ ق، ج1، ص20 _ 23.

[31] أصول الفقه، مصدر سابق، مج2، ص146، تحت عنوان (طرق إثبات الظواهر).

[32] ينظر: الفراهيدي، خليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، ط 2، دار الهجرة، قم المشرّفة،1410هـ ق، ج3، ص390.

[33] ينظر: الزبيدي، محب الدين، تاج العروس من جواهر القاموس، ط 1، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1414هـ ق، ج14، ص126.

[34] ينظرالجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح _ تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1410هـ ق، ج4، ص1663.

[35] البقرة، 67.

[36] يوسف، 33، ولاحظ: الأنعام، 35، وهود، 46.

[37] المائدة، 50، ولاحظ: آل عمران، 154، والأحزاب، 33، والفتح، 26.

[38] الأعراف، 138.

[39] الأعراف، 199.

[40] النساء، 17. ولاحظ: الأنعام، 54، والنحل، 119.

[41] البقرة، 273.

[42] ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط 1، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم المشرّفة، 1404هـ ق، ج1، ص489 و490.

[43] كتاب العين، مصدر سابق، ج1، ص159.

[44] تاج العروس، مصدر سابق، ج15، ص504.

[45] العنكبوت، 63. 

[46] معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج4، ص69.

[47] الحراني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسولe، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط 2، قم المشرّفة، 1404هـ ق، ص15.

[48] الحج، 46. 

[49] النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات، تحقيق السيد محمد كلانتر، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، ج1، ص75.

[50] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية، ط 6، طهران، 1375 هـ ش، ج1، ص11، كتاب العقل والجهل ح3.

[51] م ن، ص20، ح13.

مشاركة: