"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمد وآله الأطيبين
واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين
من مهمات القواعد التفسيرية مسألة السياق القرآني، وحاكميته على بيان صحة التفسير بهذا المعنى أو ذاك أو ترجيح بعض المعاني، وهو بنفسه قرينة عقلائية على التفسير بلحاظ ظواهر الخطاب.
ومن المسائل الشائكة في التفسير أنـّه قد أُثر في الروايات المروية من طرق الخاصّة والعامّة تفسير آل ياسين في سورة الصافات بأهل البيتi، ويُستشكل عادةً بمنافاة هذه الروايات لسياق الآيات حيث إنّ مقتضى السياق أن يكون المقصود هو نفس نبي الله إلياسg، فبحثنا في ضمن هذه المقالة حول هذا الموضوع، وإن كان تفسير (آل ياسين) بأهل البيتi منافياً للسياق أو قل: في تعيين السياق تفسيره بنبي الله إلياسg لا سيّما بناءً على قراءة ﴿إِل يَاسِينَ﴾.
هذا، وقد رتّبنا هذه المقالة في ضمن مباحث ثلاثة:
المبحث الأوّل: في القراءات وبيان اختلافها بلحاظ هذه الآية.
المبحث الثاني: في بيان الأقوال في هذه المسألة.
المبحث الثالث: في بيان ما يقتضيه السياق واللغة، وإن كانت الروايات المفسّرة للآية بأهل البيتi لا تتمّ على مستوى ظاهر الآية.
القراءة لغةً التّلاوة، واصطلاحاً هي وجه من محتملات النصّ القرآنيّ.
قال الزركشي (م794هـ ق): «واعلم أنّ القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمدe للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي في كتبة الحروف أو كيفيّتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما»[1].
وقد اتفقت كلمتهم ظاهراً على تواتر القراءات عن نفس القراء المشهورين، لكن اختلف في كون القراءات متواترة عن النبيe بمعنى أنّ اختلاف القراءات أمر وحياني من عند الله تعالى، أو هو من اختلاف الرواة.
والموجود في أخبارنا هو الثاني، وننقل على سبيل المثال ما روي في الكافي بسند معتبر على التحقيق عن أبي جعفرg أنَّه قال: >إنّ القرآن واحدٌ، نزل من عند واحدٍ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرّواة<[2].
ومن هنا قال الشيخ أبو جعفر الطوسيO: >اعلموا أنّ المعروف من مذهب أصحابنا والشائع من أخبارهم ورواياتهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد، على نبيّ واحد، غير أنـّهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء، وأنّ الإنسان مخيّر بأيّ قراءة شاء قرأ، وكرهوا تجويد قراءة بعينها، بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء، ولم يبلغوا بذلك حدّ التحريم والحظر<[3].
وأمّا حديث تواتر القراءات فنحن لا نمانع تواترها عن أصحابها، وبنصّ العلامة المجلسيO: >فإنـّه لو سلّم تواترها، فإنّما هي متواترة عن أصحاب القراءات كعاصم مثلاً، وهذا بيّن لمن تتبع كتب التفسير والقراءة وعرف كيفية ظهور تلك القراءات<[4].
وقوله: (هذا بيّن لمن. . . عرف كيفية ظهور تلك القراءات) دقيق، وقد كتبت كتب لبيان هذه المسألة، وفيها تأكيد على أنّ لاختلاف القراءات أسباب بشرية اجتهادية ولم تأتِ من قبل الوحي، ولعلّ أبرز أسبابها رسم المصحف، وعدم التنقيط والحركات الإعرابية، واللهجات، فأكثر الخلاف بين القراءات المشهورة راجع إلى هذه الأمور المتعلّقة بالبنية الصرفية أو النحوية[5].
وقد نصّ على تصحيح التواتر عن القراء دون النبي e جملة من علماء العامة كالزركشي (م794هـ ق) في البرهان الذي قال: >والتحقيق أنـّها متواترة عن الأئمة السبعة، أمّا تواترها عن النبيe ففيه نظر؛ فإنّ إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد لم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة، وهذا شيء موجود في كتبهم، وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه >المرشد الوجيز< إلى شيء من ذلك<[6].
لا يخفى أنـّه سواء بنينا على تواتر القراءات أم على كونها اختلافاً بين الرواة وأنّ القراءة الصحيحة أحدها، فإنـّه على أيّ تقدير لا إشكال بين المسلمين في جواز القراءة بكلّ قراءة مشهورة، وقد حدّدت تلك القراءات بسبع أو عشر قراءات.
وفي مورد بحثنا ـ وبحسب ما وصلنا من قراءات ـ قرأ الأكثر الآية 130 من سورة الصافات بهذه الطريقة: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ﴾، وقرأ ابن عامر الدمشقي (م118هـ ق) ونافع المدني (م169هـ ق) ﴿سَلَامٌ عَلَى ءَالِ يَاسِينَ﴾[7]، وهي قراءة يعقوب بن إسحاق (م205هـ ق)[8]، وقد نسب الطبري (م310هـ ق) هذه القراءة لعامّة أهل المدينة.
قال في جامعه: >واختلفت القراء في قراءة قوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ﴾ فقرأته عامّة قراء مكة والبصرة والكوفة: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ﴾ بكسر الألف من إل ياسين. . . وقرأ ذلك عامّة قُرّاء المدينة: ﴿سَلَامٌ عَلَى ءَالِ يَاسِينَ﴾ بقطع آل من ياسين، فكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى: سلام على آل محمد<[9].
ومما ينبغي أن نلفت له في المقام أنّ رسم المصحف سواء على قراءة الكسر ﴿إِل﴾ أو الفتح ﴿ءَالِ﴾ قد اتفق على رسمها مفصولةً عن كلمة ﴿يَاسِينَ﴾، ولم أجد من كتبها: (إلياسين)، وسوف يأتي وجه التأكيد على هذه النكتة.
من لاحظ كتب التفسير يجد عدّة أقوال في بيان المقصود من ﴿إِل يَاسِينَ﴾ أو ﴿ءَالِ يَاسِينَ﴾، ويمكن إرجاعها إلى أقوال ثلاثة:
القول الأوّل: إنّ المقصود نفس نبي الله إلياس الذي تقدّم ذكره، حيث قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لاَ تَتَّقُونَ * أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ﴾.
ويقال عادةً: إنّ هذا ما يقتضيه لحاظ السياق العامّ للسورة، حيث جاء أوّلاً ذكر نبي الله نوحg: ﴿وَلَقَد نَادَىنَا نُوح فَلَنِعمَ المُجِيبُونَ﴾، ثم عقّب بالسلام عليه، فقال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوح فِي ٱلعَلَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي ٱلمُحسِنِينَ * إِنّه مِن عِبَادِنَا ٱلمؤمِنِينَ﴾، ثم ذكر نبي الله إبراهيمg فقال: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبرَاهِيمَ﴾، وعقّب ذلك بعده بقوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجزِي ٱلمُحسِنِينَ * إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا ٱلمُؤمِنِينَ﴾، ثم عقّب ذلك بذكر موسى وهارونh، فقال تعالى: ﴿وَلَقَد مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾، ثم أيضاً جاء السلام عليهما في قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي ٱلمُحسِنِينَ * إِنَّهما مِن عِبَادِنَا ٱلمُؤمِنِينَ﴾.
ثم بعد ذلك جاء ذكر إلياسg، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ إِليَاسَ لَمِنَ ٱلمُرسَلِينَ﴾، فلا بدّ أن يكون قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي ٱلمُحسِنِينَ * إِنَّه مِن عِبَادِنَا ٱلمُؤمِنِينَ﴾ تسليماً عليه، نظير من تقدّم ذكرهم من الأنبياء.
إن قلت: لكن الوارد في القرآن ﴿إِل يَاسِينَ﴾ دون (إلياس).
قيل: التعبير عن >إلياس< بـ﴿إِل يَاسِينَ﴾ ليس غريباً، كما يقال لـ(إدريس) (إدراسين)، و(إبراهيم) (إبراهام)[10].
أو أنّ المقصود من ﴿إِل يَاسِينَ﴾ الجمع نسبة إلى إلياس، كما تقول في >الأشعريون< نسبة إلى الأشعري، فهم إلياسيون نسبةً إلى إلياس، والمقصود منه إلياس ومن آمن معه من قومه[11].
القول الثاني: وهو مبني على قراءة الفتح (آل)، بدعوى أنّ (ياسين) هو والد نبي الله (إلياس)، فيكون المقصود من (آل ياسين) أهل والد (إلياس) يعني نفس إلياس.
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسيO بعدما بيّن أنّ من أضاف أراد آل محمدe؛ لأنّ (ياسين) من أسماء النبيe كما يأتي في القول الثالث: >وقال بعضهم أراد آل إلياسg، وقال الجبائي: أراد أهل القرآن<[12].
القول الثالث: أنّ المقصود هم أهل البيتi، وهو مروي في كتب الخاصّة والعامّة، وإليك أهمّ تلك المصادر:
1_ روى الحبري (م286هـ ق) في تفسيره عن أمير المؤمنين g، قال: (إنّ رسول الله e اسمه (يس)، ونحن الذي قال الله: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ﴾)[13].
2_ روى الطبراني (م360هـ ق) في معجمه عن مجاهد عن ابن عباس: (﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ﴾، قال: نحن آل محمدe)[14].
3_ نقل الحسكاني (م490هـ ق) في شواهد التنزيل بعدّة أسانيد هذا المضمون، فمنها ما نقله عن ابن عباس وأنـّه قال في بيان الآية: (على آل محمد)، وفي نقل آخر عنه: (هم آل محمد)، وفي ثالث: (نحن هم آل محمد)، ونقل عن أمير المؤمنينg في الآية أنّه قال: (ياسين محمد، ونحن آل ياسين<، وفي آخر: >رسول الله ياسين، ونحن آله<)[15].
4_ روى هذا المضمون الحراني (م في القرن الرابع) في تحف العقول، فعن الإمام الرضاg قال في بيان الآية: >يعني آل محمد<[16].
5_ ما جاء في دعائم الإسلام للقاضي النعمان (م363هـ ق) عن أبي عبد الله الصادقg، قال: >ياسين محمد، وآل ياسين أهل بيته<[17].
6_ رواه الشيخ الصدوق (م381هـ ق) في جملة من كتبه سواء من طرقنا أم من طرق العامّة عن أمير المؤمنينg، وابن عباس، وعن أبي مالك[18]، وهو المروي عن الإمام الرضاg على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
7_ ما رواه الطبرسي (م588هـ ق) عن توقيع خرج لمحمد بن عبد الله الحميري من الناحية المقدّسة، ومما جاء فيه: >إذا أردتم التوجه بنا إلى الله وإلينا، فقولوا كما قال الله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى ءَالِ يَاسِينَ﴾، السلام عليك يا داعي الله ورباني آياته، السلام عليك يا باب الله وديّان دينه، السلام عليك يا خليفة الله وناصر خلقه...<[19]، الحديث.
هذا بالنسبة للروايات، وأمّا على مستوى الاختيار فيظهر من بعض التفاسير أنـّه المختار عند من قرأ الآية بالفتح، فقال السمرقندي (م373هـ ق) في تفسيره: >ومن قرأ آل ياسين يعني محمداًe ويقال: آل محمد، فياسين اسم، والآل مضاف إليه<[20]، ولم يذكر احتمالاً آخر في المقام، وسوف يأتي في رواية الإمام الرضاg ما يؤكّد هذا المعنى.
نعم، قال الثعلبي (م427هـ ق): >فمن قرأ آل ياسين بالمد، فإنـّه أراد آل محمد عن بعضهم، وقيل: أراد إلياس، وهو أليق بسياق الآية<[21]، فعبّر عن القول الآخر بـ(قيل).
هذه هي عمدة الأقوال في هذه المسألة، وقد عرفت دعوى اقتضاء السياق اختيار القول الأوّل، وتفسير الآية بنفس إلياسg، ويليه الثاني حيث دعوى كون المقصود ياسين والد نبي الله إلياسg، ويدّعى أنّ القول الثالث بعيد جدّاً عن سياق الآيات، حيث لم يتقدّم لأهل البيتi ذكر حتى يكونوا المقصودين من السلام.
اعلم أنّ القول الأوّل، وهو تفسير الآية بنفس نبي الله إلياسg بعيد في نفسه وبلحاظ السياق، على خلاف ما يدّعى من أنّ مقتضى السياق كون السلام عليه (صلوات الله عليه):
أمّا أنـّه بعيد في نفسه فمن جهة رسم المصحف حيث فصلت كلمة (ال) عن (ياسين)، ولو كان المقصود منها لام التعريف وما شاكل ذلك لكتبت موصولة كما هو الحال في سائر القرآن الكريم، ففي الفصل دلالة على قصد الإضافة[22]، وهو شديد الوضوح بناءً على قراءة (آل ياسين)، وأمّا على قراءة (إل ياسين) فيمكن أن يُقال: إن (إل) في اللغة العربية تستعمل بمعنى الآل والأهل، وبه فسّر قوله تعالى: ﴿لَا يَرقُبُونَ فِي مُؤمِنٍ إِلّا وَلَا ذِمَّة وَأوْلَئِكَ هُمُ المُعتَدُونَ﴾[23].
وقد نقل ابن فارس جملة من أشعار العرب التي تؤكد هذا الفهم، كقول بعضهم[24]:
هم قطعوا من إلّ ما كان بيننا عقوقاً ولم يوفوا بعهدٍ ولا ذمم
وقول آخر:
لعمرك إنّ إلّك في قريش كإلّ السقب من رأل النعام
وقال الراغب: (الإلّ: كلّ حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئلّ: تلمع، فلا يمكن إنكاره. قال تعالى: ﴿لَا يَرقُبُونَ فِي مُؤمِنٍ إِلّا وَلَا ذِمَّة﴾[25]، وأَلَّ الفرس، أي: أسرع. حقيقته: لمع، وذلك استعارة في باب الإسراع، نحو: برق وطار. والأَلَّة: الحربة اللامعة، وأَلَّ بها: ضرب، وقيل: إلّ وإيل اسم الله تعالى، وليس ذلك بصحيح)[26].
وإذا كانت (إل) تأتي بمعنى الأهل والقرابة، فما المانع أن تكون كلا القراءتين (آل ياسين) و(إل ياسين) بمعنى واحد، وهو الأنسب فيما لو قلنا بتواتر القراءات وأنّ تعدّدها للتخفيف وتعدّد اللهجات، وكذلك فيما لو قلنا بعدم تواترها، فإنّ أحد أسباب اختلافها ليس إلاّ اختلاف اللهجات مع قصدهم معنى واحد.
وإن شئت قلت: قراءة (آل ياسين) واضحة بيّنة المعنى بغض النظر عن تحديد المقصود من (ياسين) وأنـّه والد إلياس أم رسول الله محمدe، وهي صالحة كقرينة لتفسير المقصود من (إل ياسين)، وقد عرفت أنّ (إل) تستعمل في لغة العرب بمعنى الآل، وهو مذكور في القرآن الكريم.
هذا بالنسبة لبعد تفسير الآية بنفس إلياسg من جهة نفسها.
وأمّا بُعد هذا التفسير من جهة السياق، فهو وإن كان مستهجنا بدواً، لكن من يريد أن يلحظ السياق لا بدّ له من ملاحظة السياق العامّ للسورة، لا خصوص ما تقدّم من آيات، وبيانه: أنّ الله تعالى في سورة الصافات عندما ذكر نوحاً (صلوات الله عليه) لم يذكره بوصف أنـّه رسول، بل قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * ونَجَّيْنَاهُ وأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾.
وكذلك عندما ذكر إبراهيم (صلوات الله عليه)، فقال تعالى: ﴿وإنَّ مِنْ شِيعَتِه لإبرَاهِيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بقَلْبٍ سَلِيمٍ * إذْ قَالَ لأبِيهِ وقَوْمِهِ ماذَا تَعْبُدُونَ * أإفْكاً آلِهةً دُونَ الله تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ برَبِّ العَالَمِينَ * فنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فقَالَ إنِّي سَقِيمٌ * فتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرينَ * فرَاغَ إلَى آلهَتِهِمْ فقَالَ ألاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليَمِينِ * فأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * واللهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فألْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فأرَادُوا بهِ كَيْداً فجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ * وقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فبَشَّرْنَاهُ بغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أرَى فِي المنَامِ أنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ مَاذَا ترَى قَالَ يَا أبَتِ افعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابرِيْنَ * فَلمَّا أسْلَمَا وتَلَّهُ للجَبِينِ * ونَادَيْنَاهُ أنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * إنَّ هٰذَا لهُو البَلاَءُ المُبِينُ * وفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ﴾.
وقس عليهما حال موسى وهارون (صلوات الله عليهما)، فقال تعالى: ﴿ولَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وهَارُونَ * ونَجَّيْنَاهُمَا وقَوْمَهُما مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ * ونَصَرْنَاهُمْ فكَانُوا هُمُ الغَالبِينَ * وآتيْنَاهُمَا الكِتَابَ المُسْتَبِينَ * وهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * وترَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وهَارُونَ﴾.
ثم ذكر بعد ذلك نبي الله إلياس، وبعده جاء ذكر نبي الله لوطg، ولم يسلّم عليه صراحة، بل وصف بأنـّه من المرسلين، قال تعالى: ﴿وإنَّ لُوطاً لَمِنَ المُرْسَلِينَ * إذْ نَجَّيْنَاهُ وأهْلَهُ أجْمَعِينَ * إلّا عَجُوزاً فِي الغَابرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وإنَّكُمْ لتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وباللَّيْلِ أفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
ثم ذكر يونس على نفس المنوال بوصف كونه رسولاً من دون التسليم عليه مباشرة، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وهُوَ سَقِيمٌ * وأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾.
لكن في ختام هذه السورة قد صدر السلام على المرسلين إجمالاً، فقال تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى ٱلمُرسَلِينَ﴾.
وكما ترى، فالسياق العامّ لسورة الصافات أنّ نبي الله نوح وإبراهيم وموسى وهارونi لم يذكروا بوصف الرسالة، فسلّم على كلّ واحد منهم بالتفصيل، وأمّا نبيّا الله لوط ويونسh المذكورين بوصف الرسالة، سلّم عليهما إجمالاً في أواخر السورة، ففي السورة نمطان من الاستعمال، وليست السورة على نمط واحد كما يدّعى.
وحينئذٍ ما ينبغي أن يكون مصباً للبحث هو: هل مقتضى السياق العامّ للسورة التسليم على نبي الله (إلياس) بالتفصيل أم بالإجمال؟
وبعبارة أخرى: كلّ من يدّعي أنّ مقتضى السياق السلام على (إلياس) قصر نظره على ما تقدّم، ولم يلحظ ما يأتي في السورة، مع أنّ الصحيح عند القصد لملاحظة سياق السورة النظر إلى مجموعها لا بعضها، والسورة نزلت بأسلوبين لا على أسلوب واحد.
ونحن إذا لاحظنا السلام الإجمالي في قوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ﴾، وأنـّه استغني به عن التسليم تفصيلاً عمّن وصف بالرسالة، فإنّ نبي الله (إلياس) قد وصف بالرسالة تفصيلاً نظير لوط ويونس، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ إِليَاسَ لَمِنَ المُرسَلِينَ﴾، فمتقضى السياق أن لا يسلّم عليه تفصيلاً، بل حكمه حكم لوط ويونسi، وهذا في الحقيقة من الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، ومن فسّر الآية: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ﴾ بنبي الله إلياسg فوّت هذا المعنى العظيم[27].
ومن هنا يعلم ضعف القول الأوّل في نفسه، وأنه غير منسجمٍ تماماً مع السياق خلافاً لِمَا قد يدّعى.
وأمّا بالنسبة للقول الثاني، وأنّ المقصود من (ياسين) والد إلياس، فعلى تقدير التسليم بصحة النقل وأنّ هناك دليلاً معتبراً على اسم والد نبي الله (إلياس)، فهذا القول أيضاً ينافي السياق، وإلّا فلم يسلّم على آل أيّ نبي من الأنبياء فيما مضى، مع أنـّك عرفت أنّ مقتضى السياق عدم التسليم على (إلياس) نفسه، فكيف الحال بالآل والاتباع.
وقد نبّه على هذا المعنى في بعض الأخبار، فقد روي عن الإمام الرضاg قوله: (﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[28]، فمن عنى بقوله: ﴿يس﴾، قالت العلماء: ﴿يس﴾ محمّدٌe، لم يشكّ فيه أحدٌ، قال أبو الحسنg: فإنّ الله أعطى محمّداًe وآل محمّدٍ من ذلك فضلاً لا يبلغ أحدٌ كنه وصفه إلّا من عقله، وذلك أنّ الله لم يسلّم على أحدٍ إلاّ على الأنبياء فقال تبارك وتعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوح فِي العَالَمِينَ﴾ وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبرَهِيمَ﴾، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَرُونَ﴾، ولم يقل: سلامٌ على آل نوحٍ، ولم يقل: سلامٌ على آل موسى، ولا آل إبراهيم، وقال: ﴿سَلَامٌ عَلَى ءَال يَاسِينَ﴾، يعني آل محمّدٍe)[29].
إن قلت: نفس ما تقدّم من إشكال جارٍ على تفسير الآية بأهل البيتi، فإنّ ذلك أيضاً مخالف للسياق.
قلت: غاية ما أردنا بيانه فيما تقدّم إسقاط الاستشهاد بالسياق في تفسير المقصود من (آل ياسين)، فإنّ السياق لا يتلاءم مع شيء مما ذكروه في المقام، وحينئذٍ لا مانع من العمل بما ورد في الروايات ولا تكون مخالفةً وغريبة عن السياق، بعد عدم صحة الاستشهاد بالسياق على أيّ تفسير غيره، بل السياق يشهد على عدم صحة ما سبق، ولا يدلّ على بطلان ما نحن فيه، وبالتالي لا حاجة لِمَا ينقل عن بعض المعاصرين من تأوّل الروايات، ودعوى كونها من التفسير بالباطن.
ويمكن أن يكون ذكر أهل البيتi في هذه الآية تسليةً لهم بما حصل مع الأنبياء السابقين، فإنّ في قصة إلياس إنباء بأنّ وليّ الله عليه أداء الرسالة، ولا يلزم من ذلك أن يشاهد عقاب المكذّبين ولا هلاكهم.
هذا، آخر ما أردنا إيراده في هذه المقالة، و﴿سَلَامٌ عَلَى ءَالِ يَاسِينَ﴾ والحمد لله ربّ العالمين.
[1] الزركشي، بدر الدرين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، ط 1، دار المعرفة، بيروت، 1410هـ ق، ج1، ص465.
[3] الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، ط 1، دار إحياء التراث العربي، لا ت، ج1، ص7.
[4] المجلسي، محمد باقر، ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، ط 1، مكتبة السيد مرعشي النجفي، قم المشرّفة، 1406هـ ق، ج1، ص299.
[5] منها: كتاب نشوء القراءات، بحث علمي استدلالي في القراءات وأسباب الاختلاف فيها، للدكتور عبد الرسول الغفاري.
[7] ينظر: الفارسي (م377هـ ق)، حسن بن أحمد، الحجة للقراءة السبعة، ط 2، دار المأمون للتراث، بيروت، 1413هـ ق، ج6، ص59.
[8] ينظر: التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج8، ص523، وابن وجيه، عبد الله بن عبد الله المؤمن، الكنز في القراءات العشر، ط 1، مكتبة الثقافة الدينية، مصر، 1425هـ ق، ج2، ص125.
[9] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري)، ط 1، دار المعرفة، بيروت، 1412هـ ق، ج23، ص61.
[11] ينظر: الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن غوامض التنزيل، ط 3، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407هـ ق، ج4، ص60.
[15] الحسكاني، عبيد الله بن عبد الله، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، ط 1، وزارة الثقافة والإرشاد، طهران، 1411هـ ق، ج2، ص165 _ 169.
[16] الحراني، الحسن بن علي بن شعبة، تحف العقول، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرّفة، 1404هـ ق، ص433.
[18] الصدوق، محمد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، ط6، طهران، 1376 هـ ش، ص472، ومعاني الأخبار، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرّفة، 1403هـ ق، ص122، باب معنى >آل ياسين<.
[19] الطبرسي، أحمد بن عليّ، الاحتجاج على أهل اللجاج، ط 1، نشر المرتضى، مشهد المقدّسة، 1403هـ ق، ج2، ص493.
[20] السمرقندي، نصر بن محمد، تفسير السمرقندي المسمّى بـ<بحر العلوم>، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1416هـ ق، ج3، ص152.
[21] الثعلبي، أحمد بن محمد، الكشف والبيان المعروف بتفسير الثعلبي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422هـ ق، ج8، ص169.
[24] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة، ط 1، مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الإسلامي، قم المشرّفة، 1404هـ ق، ج1، ص21.