قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".

السؤال:

هل يصح الاستناد إلى ما روي من قولهم: (نزهونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم) لتصحيح جميع أخبار فضائل أهل البيت عليهم السّلام؟  


بسم الله الرحمن الرحيم

قبل الورود في بيان هذا الحديث لا بدّ لنا من بيان مصادره الروائيّة في كتبنا الأصليّة، والسياقات التي جاء فيها حتى نستعين بها على فهم المقصود من هذا الحديث، فنقول:

أوّلاً: مصادر الحديث

روي هذا الخبر في جملة من المصادر المعتبرة وغيرها، مع الالتفات إلى أنّ هناك جملة من كتب المتأخرين قد نقلت هذا الحديث بألفاظ مختلفة عمّا هو وارد في كتب الأحاديث[1]، وليس ذلك -بحسب الظاهر-  إلّا من باب النّقل بالمعنى، لا أنّهم عثروا على مصدر غير تلك المصادر المعروفة بين الطائفة.

1- ورد في بصائر الدرجات[2]: (حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، عن الحسين بن سعيدٍ، عن الحسين بن بردة، عن أبي عبد الله g، وعن جعفر بن بشير‏ الخزّاز، عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد الله g: (يا إسماعيل، ضع لي في المتوضّأ ماءً. قال: فقمتُ فوضعت له. قال: فدخل. قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضّأ يتوضّأ. قال: فلم يلبث أن خرج، فقال: يا إسماعيل، لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا. قال إسماعيل: وكنت أقول إنّه وأقول وأقول)[3].

والمقصود من قوله: (وكنتُ أقول إنّه) -كما ذكر العلامة المجلسي O [4]-: كنتُ أقول إنّه ربّ ورازق وخالق، وهو دقيق حيث القصد من هذا التعبير بيان أنّ الإمام g قد اطلع على ما في ضميره، فأبطل الإمام g اعتقاده الفاسد بذلك التعبير، ولذا تجد أنّ الصفار O قد جعل هذا الحديث ضمن باب بعنوان: (باب في الأئمة أنّهم يعرفون الضّمائر وحديث النّفس قبل أن يُخبَروا به).

وقد نقل هذا الخبر في موضع لاحق، ونصّه: (حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، عن الحسين بن سعيدٍ، عن الحسين بن بردة، عن جعفر بن بشير الخزاز، عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (ضع لي في المتوضّأ ماءً، قال: فقمت فوضعت له فدخل، قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضّأ يتوضأ، فلم يلبث أن خرج، فقال: يا إسماعيل بن عبد العزيز، لا ترفعوا البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم‏. قال إسماعيل: كنت أقول فيه وأقول)[5].

هذا، وقد رأيت في بعض الكتابات إضافة كلمة (حدّثنا) إلى هذا الخبر، فكأنّه قيل: (كنت أقول فيه وأقول حدّثنا)، وهو اشتباه، بل كلمة (حدّثنا) قد افتتح بها الحديث اللاحق، ويؤكّده أنّ المقصود من (القول) في هذا الحديث وأمثاله بيان الاعتقاد دون الكلام والتحديث، وهو استعمال شائع في الأخبار نظير ما رواه مفضل بن قيس بن رمانة قال: (قلتُ لأبي عبد الله: إنّ أصحابنا يختلفون في شيء، وأقول: قولي فيها قول جعفر بن محمد، فقال: بهذا نزل جبريل)[6]، فكلمة (أقول) الأُولى بمعنى الكلام، وكلمة (قولي فيها قول) بمعنى الاعتقاد، وهو واضح.

وقد أخرج هذا الخبر في الخرائج والجرائح، وجاء في ذيله: (يا إسماعيلُ، لا ترفعوا البناء فوق طاقته فيهدم، اجعلونا عبيداً مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم إلّا النبوّة)[7].

2- في البصائر أيضاً: (حدّثنا الحسن بن موسى الخشّاب، عن إسماعيل بن مهران، عن عثمان بن جَبَلة، عن كامل التمار، قال: (كنت عند أبي عبد الله g ذات يوم، فقال لي: يا كامل، اجعلوا لنا ربّاً نؤوبُ إليه وقولوا فينا ما شئتم، قلتُ: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه، ونقول فيكم ما شئنا! قال: فاستوى جالساً، ثم قال: وما عسى أن نقول، والله ما خرج إليكم من علمنا إلّا ألفاً غير معطوفة)[8].

وقد روي هذا الخبر في مختصر البصائر، وعبارة الذيل أكثر وضوحاً، فقد جاء فيها: (ما عسى أن تقولوا؟! والله ما خرج إليكم من علمنا إلّا ألفاً غير معطوفةٍ)[9].

والألف غير المعطوفة -كما نبّه العلّامة المجلسي O[10]- كناية عن نصف الحرف، فإنّ الألف بالرسم الكوفي ترسم على شكل حرف الـ(أل) باللّاتينيّة، فمن رسم الخط المستقيم ولم يعطفها يكون قد رسم ألفاً غير معطوفة.

أقول: هذه القضية المنقولة هنا قد روى نظيرها الشيخ الكليني O في الكافي لكن بعبائر أخر، وإليك نصّه: (عليّ بن محمّدٍ، عن سهل بن زيادٍ، عن محمّد بن الوليد شبابٍ الصّيرفيّ، عن يونس بن رباطٍ، قال: (دخلتُ أنا وكاملٌ التّمّار على أبي عبد الله g فقال له كاملٌ: جُعِلت فداك، حديثٌ رواه فلانٌ، فقال: اذكره. فقال: حدّثني أنّ النّبيّeحدّث عليّاً g بألف بابٍ يوم توفّي رسول الله e كلّ بابٍ يفتح ألف بابٍ فذلك ألف ألف بابٍ. فقال: لقد كان ذلك. قلتُ: جُعِلت فداك، فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم؟ فقال: يا كامل، بابٌ أو بابان. فقلت له: جُعِلت فداك، فما يُروَى من فضلكم من ألف ألف بابٍ إلّا بابٌ أو بابان؟! قال: فقال: وما عسيتم أن ترووا من فضلنا؟! ما تروون من فضلنا إلّا ألفاً غير معطوفةٍ)[11].

3- ورد في الخصال للشّيخ الصّدوق ضمن حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين عليّ g قوله: (إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيدٌ مربوبون وقولوا في‏ فضلنا ما شئتم)[12]‏، وقد أخرجه الحرّاني في تحف العقول ضمن حديث الأربعمائة أيضاً[13]. وكأنّه منه أخذ جملة ممّن اهتم بجمع كلمات أمير المؤمنين، فقد جاء في عيون الحكم وغرر الحكم: (إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا مربوبون واعتقدوا في‏ فضلنا ما شئتم)[14] .

هذه هي عمدة مصادر الحديث التي ورد فيها هذا المضمون، وقد ورد أيضاً في مصادر أخر أقلّ اعتباراً كالتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري g، وقد جاء فيه: (وقال أمير المؤمنينg: لا تتجاوزوا بنا العبوديّة، ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النّصارى، فإنّي بري‏ءٌ من الغالين)[15]، وقد نقله عنه الطبرسي O في الاحتجاج[16].

وأيضاً نقل في كشف الغمة عن مالك الجهني ما نصّه: (عن مالكٍ الجهنيّ قال: كنّا بالمدينة حين أجلبت[17] الشّيعة وصاروا فرقاً فتنحّينا عن المدينة ناحيةً ثمّ خلّونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشّيعة إلى أن خطر ببالنا الرّبوبيّة، فما شعرنا بشي‏ءٍ إذا نحن بأبي عبد الله واقفٌ على حمارٍ، فلم ندر من أين جاء، فقال: يا مالك ويا خالد متى أحدثتما الكلام في الرّبوبيّة؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلّا السّاعة، فقال: اعلما أنّ لنا ربّاً يكلؤنا باللّيل والنّهار نعبده يا مالك ويا خالد قولوا فينا ما شئتم‏ واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقفٌ‏ على حماره)[18].

وأيضاً ما نقله في البحار عن كتاب عتيق فيه جاء فيه قول أمير المؤمنين g لأبي ذرّ: (اعلم يا أبا ذرٍّ أنا عبد الله q وخليفته على عباده، لا تجعلونا أرباباً، وقولوا في‏ فضلنا ما شئتم؛ فإنّكم لا تبلغون كُنْهَ ما فينا)[19].

وعن ذلك الكتاب أيضاً ورد أيضاً قول أمير المؤمنين g: (إنّما أنا عبد من عبيد الله، لا تسمّونا أرباباً، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كنه ما جعله الله لنا ولا معشار العشر)[20].

كما أنّه قد ورد هذا المضمون في الهداية الكبرى، وجاء فيه قول الإمام الصادق g للمفضل في مقام مدح طائفة من الناس: (وإنّما اقتدى بقولنا إذ جعلونا عبيداً مربوبين‏ مرزوقين‏ فقولوا بفضلنا ما شئتم فلن تدركوه)[21]، وفي مشارق أنوار اليقين قول أمير المؤمنين g: (يا سلمان، بنا شرف كلّ مبعوث، فلا تدعونا أربابا، وقولوا فينا ما شئتم‏)[22]، مع الالتفات إلى أنّ رجب البرسي قد أشار إلى هذا المضمون في موضعين آخرين من كتابه، لكن لم يظهر لنا أنّه كان في مقام نقل رواية بحرفيتها، بل في مقام الاستشهاد بهذا المضمون المستفيض[23]، فليلاحظ.

وعلى كلّ، فهذا كلّ ما عثرت عليه في كتب الأخبار.

 

ثانياً: في فقه الحديث في نفسه

من القواعد الأصيلة في فهم النصوص معرفة السياق الذي جاء فيه الحديث، أو قل: القضية التي يريد الحديث علاجها، وإلّا فكثيراً ما نرى الناس يخطؤون في فهم نصّ من النصوص لأجل بترهم هذا النصّ أو ذاك، مثلاً: ورد عن الإمام الصادق g ما مضمونه: (إذا عرفت فاعمل ما شئت) فإنّ مثل هذه العبارة إن أخذت مستقلّة يمكن أن يستدلّ بها على مسلك أهل الإرجاء ومن قال بأنّ الدين ليس إلّا معرفة رجال، وبعد ذلك له أن يفعل فيترك ما شاء من الواجبات ويرتكب ما شاء من المحرّمات، لكن قد أوضح الإمام g سياق الحديث، فجاء عن محمد بن مارد قال: (قلت لأبي عبد الله g: روي لنا أنّك قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئتَ، فقال: قد قلت ذلك، قال: قلت: وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر، فقال لي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله ما أنصفونا أن نكون أُخذنا بالعمل ووُضِعَ عنهم، إنّما قلتُ: إذا عرفتَ فاعمل ما شئتَ من قليل الخير وكثيره، فإنّه يُقبَلُ منك)[24].

إذا عرفت هذا، فلننظر إلى سياق تلك العبارة (قولوا فينا ما شئتم)، فإنّ من لاحظ تلك الأحاديث وجد سياقين:

الأوّل: التأكيد على أنّه ليس لهم مقام الربوبيّة كما هو المؤكّد عليه في خبر إسماعيل ورواية الخصال.

الثاني: بيان أنّ فضائلهم أكثر من تحصى كما هو المؤكّد عليه في خبر كامل التمار، ويشهد له بوضوح الاستدراك الوارد في جملة من تلك الأخبار أعني قوله g: (فلن تبلغوا)‏، أو (ما عسى أن تقولوا) أو (ولن تبلغوا) أو (إنّكم لا تبلغون كنه ما فينا) أو (فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كنه ما جعله الله لنا ولا معشار العشر فلن تدركوه).

والحاصل: أنّ هذه الأخبار لا يظهر منها فتح الباب التقوّل عليهم، والتعبير وارد لبيان عظمة مقامهم وأنّه غير قابل للوصف مع التأكيد على نفي مقام الربوبيّة عنهم، وأنّ أمرهم بيد الله تعالى، فهي تناظر ما رواه مالك الجهني، قال: قال أبو جعفر g: (يا مالك، أنتم شيعتنا، ألا ترى أنّك تفرط في أمرنا[25]، إنّه لا يقدر على صفة الله، فكما لا يقدر على صفة الله كذلك لا يقدر على صفتنا، وكما لا يقدر على صفتنا كذلك لا يقدر على صفة المؤمن. إنّ المؤمن ليلقى المؤمن فيصافحه، فلا يزال الله ينظر إليهما والذّنوب تتحاتّ عن وجوههما كما يتحاتّ الورق من الشّجر حتّى يفترقا، فكيف يقدر على صفة من هو كذلك؟!)[26].

والمتحصّل: أنّ قوله g: (قولوا فينا ما شئم) الغرض منه التأكيد على عظم مقامهم وأنّ ما ورد من بيان منزلتهم نزر يسير أمام عظم مقامهم، وهو ظاهر بيّن فيما لو تأملت حديث مالك، وقد جاء فيه: (ما عسى أن تقولوا؟ والله ما خرج إليكم من علمنا إلّا ألفاً غير معطوفةٍ)، وإلّا فلو كان المقصود أن نقول كلّ ما نشاء ولو كان معنى مخترعاً لَما توقف القول على ما خرج إلينا، بل نخترع ونقول ونقول سواء خرج من عندهم أم لا.

ولأجل هذا لا نرى أن من حدّث عن الواقعة التي حدثت مع مالك قد نقلها بما يعطي هذا المعنى من دون الإتيان بعبارة: (قولوا فينا ما شئتم)، وقد نقلناها في مضى وفيها: (وما عسيتم أن ترووا من فضلنا؟ ما تروون من فضلنا إلّا ألفاً غير معطوفة).

 

ثالثاً: في الجواب عن السؤال المطروح

قد يُقال: إنّ قوله g: (قولوا فينا ما شئتم) يصحح لنا نسبة كلّ فضل وكمال لأهل البيت -عليهم السّلام- وإن لم ترد به رواية فضلاً عمّا لو كان هناك رواية ضعيفة، فلا داعي للمناقشة في أسانيد أخبار الفضائل ومقاماتهم، والدليل على هذا الفهم ليس إلّا دعوى ظهور: (قولوا فينا ما شئتم) في ذلك، فباب القول والحديث والإخبار عنهم مفتوح طالما لم يكن فيه نسبة للربوبيّة، ومن هنا لنا أن نجعل هذا الحديث دليل على التسامح في أخبار الفضائل أعني هنا فضائل أهل البيت عليهم السّلام [27].

أقول: قد بان مما تقدّم بطلان هذه الدعوى جملة وتفصيلاً، ونزيدك هناك نكات أُخر، فنقول وعلى الله الاتكال:

[أ] قد عرفتَ -وقد كان ينبغي أن يكون بيّناً لكلّ قارئ- أنّ المقصود من القول في قوله g: (قولوا) ليس الكلام بل الاعتقاد، فإسماعيل بن عبد العزيز عندما يقول: (وكُنْتُ أقولُ أنّه وأقول وأقولُ) أي كنت أعتقد. وإن كنتَ في شكٍّ من ذلك فانظر إلى قوله g: (اجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم)، فما المقصود من (اجعلونا)؟ هل النظر إلى فعل اختياريّ لنا فبيدنا الوضع والرفع؟! أم المقصود -كما هو بيّن- اعتقدوا فينا أنّنا عبيد مخلوقون ثم اعتقدوا فينا ما شئتم، وقس عليه ما ورد عن أمير المؤمنين g من قوله: ‏(إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيدٌ مربوبون، وقولوا في‏ فضلنا ما شئتم) فإنّ قوله: (قولوا إنّا عبيد مربوبون) هل يعني لزوم أن نقول هذه العبارة أم أنّ المطلوب الاعتقاد بها، وبالتالي يكون المقصود من أن نقول في فضلهم ما شئنا محمول نفس المعنى بمقتضى المقابلة؟ الظاهر هو الثاني.

وعليه، فهذا الحديث بأيّ معنى فسّر لا يصحّ أن يجعل متكئاً للتساهل والتهاون في نقل الأخبار الحاكية لفضائل أهل البيت -عليهم السّلام- أو الناقلة لكراماتهم،  فضلاً عن دعوى صحة اختراعها كما قد يدّعيه البعض!

[ب] إنّ فتح باب التقوّل بما نشاء هل يمكن الحفاظ على إطلاقه، مثلاً: من قال بأنّ أهل البيت -عليهم السّلام- يعلمون كلّ شيء بعلم فعليّ، وأنّهم لا يزدادون لا في ليلة الجمعة ولا في غيرها، مع أنّه ورد في الأخبار المستفيضة ما هو منافٍ لذلك[28]، فهل يحتمل مؤمن أن يكون الإمام g في مقام فتح باب التقوّل عليهم في كلّ شيء (ما خلا الربوبيّة) ولو كان مستلزماً لتكذيب أخبارهم؟! إن كان الأمر كذلك، فلنترك أخبارهم وعلومهم التي بثّها الأصحاب الأوائل، وليشرِّق المؤمنون وليغرِّبوا!! مع أنّهم لن يجدوا علماً صحيحاً إلّا شيئاً من عند أهل البيت [29] بل لماذا تنقل تلك الأخبار الكثيرة في بيان فضائلهم، ولماذا يقع الخلاف بين الأصحاب الأوائل في بيان بعض مقامات الأئمة -عليهم السّلام- ويُعرض الخلاف على نفس الإمام g فيرجح هذا على ذاك[30]، مع أنّه كان ينبغي أن يشيع بينهم مثل هذه القاعدة منذ الأزل، ولا حاجة إلى التثبّت من الإمام g في شيء من تلك الأخبار، بل كلّما نقل خبر في فضيلة من الفضائل تُقبل كما هي طالما لا يوجد فيها ما ينسبهم  إلى الربوبيّة.

ومما ينبغي التأمّل فيه أنّ بعض ما يدّعى أنّه من أخبار الفضائل قد يقع فيه التقصير من جهات أُخر، أو يخالف فيه ما هو مقتضى التقية، ولذا ورد التحذير من الإمام الرضا g عن الأخذ بالأخبار التي يرويها أهل الخلاف في الفضائل، فقد جاء ضمن بعض الأخبار ما نصّه: (قال إبراهيم بن أبي محمودٍ: فقلت للرّضا: يا ابن رسول الله، إنّ عندنا أخباراً في‏ فضائل‏ أمير المؤمنين g وفضلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أ فندين بها؟ فقال: يا ابن أبي محمودٍ، لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه ( أنّ رسول الله e قال: من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده، فإن كان النّاطق عن الله q فقد عبد الله وإن كان النّاطق عن إبليس فقد عبد إبليس، ثمّ قال الرّضا: يا ابن أبي محمودٍ، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسامٍ: أحدها الغلوّ، وثانيها التّقصير في أمرنا، وثالثها التّصريح بمثالب‏ أعدائنا، فإذا سمع النّاس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التّقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله تعالى‏: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾‏[31]. يا ابن أبي محمودٍ، إذا أخذ النّاس يميناً وشمالًا فالزم طريقتنا فإنّه من لزمنا لزمناه ومن فارقنا فارقناه إنّ أدنى ما يخرج به الرّجل من الإيمان أن يقول للحصاة هذه نواةٌ ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه، يا ابن أبي محمودٍ احفظ ما حدّثتك به فقد جمعت لك خير الدّنيا والآخرة)[32].

[ج] مضافاً إلى القرينة اللبيّة الواضحة التي تقدّم ذكرها سابقاً وأنّ الحديث ليس في مقام إعطاء الرخصة بتكذيب أخبارهم -عليهم السّلام-، فإنّ في البين قرينة أخرى كذلك وهي أنّ الحديث ليس في مقام تشريع الكذب بحكاية أمور عنهم لم تقع، بل واختراع قضايا ما أنزل الله بها من سلطان.  وقد روى إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله g أنّه‏ قال: (إنّ الله خصَّ عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتّى‏ يَعْلَمُوا، ولا يَرُدُّوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وقال‏: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ‏ مِيثاقُ الْكِتابِ‏ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إلَّا الْحَقَ﴾‏[33] وقال:‏ ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾‏[34])[35].

[د] أنّ في كلمات أهل البيت-عليهم السّلام- تأكيدٌ على الشيعة أن لا يقولوا عنهم ما لم يقولوه عن أنفسهم، وجملة منها وإن كان ناظراً إلى نسبة الربوبيّة لهم أو الغلوّ فيهم[36]، إلّا أن بعضها له إطلاق يشمل غير ذلك، كالذي روي في قرب الإسناد عن فضيل بن عثمان الأعور، قال: سمعت أبا عبد الله g يقول: (اتّقوا الله، وعظّموا الله، وعظّموا رسول اللهe، ولا تفضِّلوا على رسول الله أحداً؛ فإنّ الله تبارك وتعالى قد فضّله، وأحبُّوا أهل بيت نبيّكم حبّاً مقتصداً، ولا تغلوا، ولا تفرَّقوا، ولا تقولوا ما لا نقول، فإنّكم إن قلتم وقلنا مِتُّم ومتنا، ثمّ بعثكم الله وبعثنا، فكنّا حيث يشاء الله وكنتُم)[37].

والمتحصّل من جميع ما سبق عدم ارتباط قوله g: (قولوا فينا ما شئتم) بما يدّعى من قاعدة التسامح، بل هذا التعبير لا يقصد منه إلّا الكناية عن عظم مقامهم، وكثرة فضائلهم، وأنّ ما ورد في حقّهم من مقام لا يعبّر عن حقيقة ذلك المقام، وأمّا كيف يثبت ذلك فلا ربط له بعقل زيد أو عمرو، بل يؤخذ عنهم -عليهم السّلام- حصراً، فإنّ العقول عاجزة عن ذلك، ولا يجوز لنا الكذب أو القول بغير علم، فضلاً عن تكذيب أخبارهم.

تنبيه

مما ينبغي التنبيه عليه في ختام البحث أنّ الحديث عن نفي الربوبيّة عنهم المتفق عليه في النصوص المتواترة مما ينبغي تحقيق معناه ضمن منظومة أخبار أهل البيت-عليهم السّلام-، فإذا كان زيد أو عمرو يعتقد أنّ الربوبيّة تعني الربوبيّة بالذات الملازمة للاستقلال، فلا مانع من نسبة الربوبيّة المستندة إلى إقدار من الله تعالى، فهذا شأنه، والمهمّ في فهم هذه الأخبار أنّ نفهم المقصود من الربوبيّة المنفية في كلمات أهل البيت -عليهم السّلام- أنفسهم لا وفق نظريات مستحدثة، فإنّ من يريد أن يفهم كلماتهم لا بدّ أن يفهمها منهم لا من مباني غيرهم، عسى أن نوفّق لبيانه في مقام آخر، والله الهادي.

والحمد لله ربّ العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مثلاً قد جاء في الحاشية على مدارك الأحكام، ج3، ص321 نقل الحديث هكذا: (اسلبوا منّا الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم من الفضائل والمحاسن).

[2] وقد اعتمدنا في مقام نقل أخبار البصائر على النسخة المحقق من قبل السيد محمد السيد حسين المعلّم، انتشارات المكتبة الحيدريّة، الطبعة الأولى، سنة 1426هـ.

[3] بصائر الدرجات، ج1، 459 و460.

[4] بحار الأنوار، ج25، ص279.

[5] بصائر الدرجات، ج1، 470 و471.

[6] رجال الكشي، ص184.

[7] الخرائج والجرائح، ج2، ص735.

[8] بصائر الدرجات، ج2، ص459-460.

[9] مختصر البصائر، ص224-225، رقم الحديث 170.

[10] بحار الأنوار، ج25، ص283.

[11] الكافي، ج1، ص297.

[12] الخصال، ج2، ص614.

[13] تحف العقول، ص104.

[14] عيون الحكم والمواعظ، ص101، غرر الحكم ودرر الكلم، ص174.

[15] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام،  ص50

[16] الإحتجاج على أهل اللجاج، ج‏2،  ص438.

[17] كذا، وفي البحار، ج25، ص289: (أجليت)، وفي إثبات الهداة، ج4، ص191: (اختلفت)، وهو الأنسب بسياق الحديث كما لا يخفى.

[18] كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج‏2 ص197.

[19] بحار الأنوار، ج26، ص2، وقد طبع هذا الكتاب العتيق باسم (المناقب)، وقد أورد فيه هذا المقطع في ص69.

[20] بحار الأنوار، ج26، ص6، والمناقب، ص74.

[21] الهداية الكبرى، ص431 و432.

[22] مشارق أنوار اليقين، ص257.

[23] انظر: مشارق أنوار اليقين، ص105.

[24] الكافي، ج2، ص464.

[25] في كتاب المؤمن، ص30: (أحسن الظنّ بالله ولا تظنّ أنّك مفرِّط في أمرك) فالحديث في مقام تطييب خاطر مالك حيث يشعر الإنسان المنصف أنّه قاصر عن وصف أهل البيت عليهم السّلام كما هم أهله، فاعتذر له الإمام g بأنّه لا حرج في ذلك بعد أن كان صفتهم لا تدرك، ويشهد لهذا المعنى من لاحظ نقل المحاسن، ج1، ص143، لكن القضية نقلت عن أبي عبد الله الصادق g.

[26] الكافي، ج2، ص180.

[27] ولعلّ الشائع في الاصطلاح أن يكون المقصود من الفضائل فضائل الأعمال، لا هذا المعنى المبحوث عنه هنا.

[28] انظر: الكافي، ج1، ص253، باب في أنّ الأئمة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة، وص254، باب لولا أنّ الأئمة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم، ص258، باب أنّ الأئمة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يَعلموا علِّموا.

[29] كما الخبر، انظر: الكافي، ج1، ص399.

[30] انظر على سبيل المثال: رجال الكشي، ص539 و540، ح1026.

[31]  سورة الأنعام، الآية 108.

[32] عيون أخبار الرضا g، ج1، ص304.

[33] سورة الأعراف، الآية 169.

[34] سورة يونس، الآية 40.

[35] الكافي، ج1، ص43.

[36] انظر: الكافي، ج2، ص75، التوحيد (الصدوق)، ص457.

[37] قرب الإسناد، ص129.

 

مشاركة: