قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".

هل  روايات حريز عن الإمام الصادقg مرسلة؟


بسم الله الرحمن الرحيم

شكّك بعض الأعلام في رواية حريز بن عبد الله السجستاني عن الإمام الصادقg، والأصل في ذلك ما ورد في رجال الكشي  نقلاً عن محمد بن مسعود، قال: >حدثني محمد بن نصير، قال: حدثني محمد بن عيسى، عن يونس، قال: لم يسمع حريز بن عبد الله من أبي عبد اللهg إلّا حديثاً أو حديثين<[1]، وما يستظهر من عبارة النجاشي من تأييده لهذه الدعوى حيث نسب رواية حريز عن الإمام الصادقg إلى (قيل)، حيث قال في ترجمته لحريز: >قيل: روى عن أبي عبد اللهg. وقال يونس: لم يسمع من أبي عبد اللهg إلّا حديثين. وقيل: روى عن أبي الحسن موسىg، ولم يثبت ذاك[2]، وكان ممن شهر السيف في قتال الخوارج بسجستان في حياة أبي عبد اللهg، وروي أنّه جفاه وحجبه عنه<[3].

وما ذكره أخيراً من حجب الإمام الصادقg لحريز هو المبرر لدعوى عدم روايته عنهg من دون واسطة، وقد أشير إلى هذا المعنى في رجال الكشي نقلاً عن حمدويه، قال: >حدّثنا محمّد بن عيسى، عن صفوان، عن عبد الرّحمن بن الحجّاج، قال: استأذن فضل البقباق لحريزٍ على أبي عبد اللهg فلم يأذن له، فعاوده فلم يأذن له، فقال له: أيّ شيءٍ للرّجل أن يبلغ من عقوبة غلامه؟ قال: على قدر جريرته. فقال: قد عاقبت والله حريزاً بأعظم ممّا صنع! فقال: ويحك أنا فعلت ذاك؟! إنَّ حريزاً جرّد السّيف، قال: ثمّ قال: لو كان حذيفة ما عاودني فيه بعد أن قلت له<[4].

ويمكن تأييد هذا المعنى بوقوع اضطراب في النقل في جملة من الأسانيد المنتهية إلى حريز من جهة فتجد محدّثاً يرويها عن حريز عن الإمام الصادقg مباشرة، وتجد آخر يروي نفس الحديث عن حريز عمّن حدّثه - مثلاً - عن الإمام الصادقg، كما وقع في الكافي حيث روى عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه؛ ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، جميعاً، عن حمّادٍ، عن حريزٍ، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللهg أنّه قال: >كلّما غلب الماء ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب، وإذا تغيّر الماء وتغيّر الطّعم فلا تتوضّأ ولا تشرب<[5].

وقد روي عين هذا الحديث في التهذيب عن الشيخ - یعني الشیخ المفید - قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّدٍ، عن الحسين بن سعيدٍ وعبد الرّحمن بن أبي نجران، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد اللهg قال: >كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطّعم فلا توضّأ منه ولا تشرب<[6].

فالسند في الكتابين مع انتهائه إلى رواية حمّاد عن حريز، تجده في الأوّل صرّح بوجود إرسال بين حريز والإمام الصادقg، بخلاف ما نقله الشيخ أبو جعفر الطوسيS حيث يظهر منه اتصال السند.

وقد يحال سبب هذا الاختلاف إلى اضطراب في نفسه أصل حريز، فإنّ ذلك الأصل وإن لم يصل إلينا، إلّا أنّ ابن إدريس (م598هـ.ق) قد استطرف منه جملة من الأحاديث، ومن لاحظ ما استطرفه ابن إدريس يرى وجود إرباك في أصل حريز، مما يوجب الوهم في كون الرواية عن الإمام الصادقg، حيث يكثر فيه التعبير بـ>قال< من دون تصريح بالقائل، كقوله بعدما نقل حديثاً لأبان: >قال: وقلت له: رجلٌ بال ولم يكن معه ماءٌ...<[7]، فلا يعلم من القائل، وقد يتوهم أنّ القائل هو نفس حريز، مع أنّ القائل هو من أخبره.

هذا هو المهم من تقرير الإشكال في رواية حريز، وقد التفت الأعلام إلى هذه الإشكالية، وعمدة الجواب عن ذلك بأنّ ما نقل عن يونس من عدم رواية حريز عن الصادقg مباشرة إلّا رواية أو روايتين خلاف الوجدان، فإنّ من لاحظ الأسانيد المنتهية إلى حريز يجد في عشرات الموارد رواية حريز عن الصادقg مباشرة.

قال محمد بن الحسن العامليS (م1030هـ ق) تعليقاً على ما نقل عن يونس: >هو غريب؛ لأنّ روايته عنه في كتب الحديث أكثر من ذلك، فقد روى عن أبي عبد اللهg عدم نجاسة الماء إلّا بالتغيّر، وروى في عقاب تارك الصلاة، وفي أبواب الحج روى أيضاً بكثرة<[8].

وقال الحائريS (م1216هـ ق): >وهو مشكل؛ لأنّ رواية حريز عنهg كثيرة جدّاً، ويبعد الحكم بإرسالها<[9] .

وقال السيد الأبطحيS (م1423هـ ق): >إنّ الذي يقتضي رواية حريز عن أبي عبد اللهg كثرة رواياته عنه، وهي على أنحاء:

الأوّل: ما وقع في آخر الإسناد إلى الإمام الصادقg، ويرمز عنه اصطلاحاً بالقول: (عن)، وهذه الطائفة وإن كثرت، فربما لا تقاوم النصّ الذي ذكروه من أنّه لم يرو عن أبي عبد اللهg أو إلاّ حديثين، فيكون قرينة على الإسناد بالواسطة.

الثاني: الروايات التي صرّح فيها بقوله: (سألت، أو دخلت، أو سمعت، أو نحو ذلك)، والأمر فيها ظاهر.

الثالث: التي ذكر فيها ما جرت بينهما من الوقائع مما هي صريحة في الرواية عنه.

فيدفع بها القول بعدم روايته أو عدم روايته أكثر من حديثين<[10].

أقول: ما ذكروه لا محيص عنه، لا سيّما أنّ يونسO لم ينقل هذا الأمر عن حريز، بل الأقرب أنّه ناشئ من تتبع له، ولا يعلم كون تتبعه تامّاً بحيث يعارض ما ينقله حمّاد بن عيسى راوية كتب حريز، وهو - أعني حمّاد - هو المعتمد غالباً في كتب الأخبار في رواية أخبار حريز، وقد عرفت حال تلك الأخبار[11].

هذا بالنسبة لأصل الدعوى، وأمّا حكاية حجب الإمام الصادقg لحريز عن الدخول إليه، فلا يعلم مدّة الحجب ووقته، وإلاّ فلا ملازمة بين تحقق الحجب وعدم رواية غير حديث أو حديثين، وقد وجّه ذلك التقي المجلسيS (م1070هـ ق)، فقال: >والظاهر أنّه كان اتقاءً ليشتهر ذلك، ولا يصل إليه ضرر؛ لأنّ الخروج عند المخالفين كان عظيماً، فإذا اشتهر أنّ أصحاب الصادقg يخرجون بالسيف، كان يمكن أن يصل الضرر إلى الجميع كما يظهر من أخبار المنصور مع الصادقg. والظاهر أنّه ما بقي الحجب، وكان أياماً، كما سمع وروى عن الصادقg أخباراً كثيرة كما عرفت وذكرنا في هذا الكتاب، وبالجملة فهذا الشيخ من أجلاء الأصحاب وعدّ جميع الأصحاب خبره صحيحاً وعملوا بها<[12].

وأمّا وقوع الاضطراب في بعض الأسانيد، فيوجد مشكلة في موارد الاضطراب حصراً ولا يسري الاضطراب إلى سائر الأسانيد المنضبطة، وفي بعض الأحيان يمكن للباحث ترجيح نقل على آخر، كما هو الحال بالنسبة لما رواه الكليني بسنده عن حماد، عن حريز، عن محمد مسلم، قال: >سألت أبا عبد اللهg عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الرّجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه<[13].

وقد روي في التهذيب عن الشيخ - يعني المفيدS - عن أبي جعفرٍ محمّد بن عليٍّ، عن محمّد بن الحسن، عن أحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن عليّ بن إسماعيل، عن حمّاد بن عيسى، عن حريزٍ، قال: >سألت أبا عبد اللهg عن الكلب يصيب شيئاً من جسد الإنسان، قال: يغسل المكان الّذي أصابه<[14].

فهنا يمكن ترجيح نقل الكليني، والحكم بوقوع سقط في نقل الشيخ أبي جعفر الطوسيS، لا أقلّ من جهة أنّ الشيخ أبا جعفر الطوسيS قد نقل عين هذا الحديث في موردين آخرين ونصّ فيهما على وجود واسطة في النقل، وأنّ حريزاً قد نقل هذا الخبر بواسطة محمد بن مسلم[15].

وأمّا الاستشهاد بما جاء في أصل حريز نقلاً عن ابن إدريس، فلا يصح الاحتجاج به، فإنّ المنقول في المستطرفات وإن أمكن أن يكون موجباً للإجمال، إلّا أنّه من القريب أن يكون سبب المشكلة كيفية تقطيع الأحاديث من قبل نفس ابن إدريس، وهو الموصوف في كلمات بعض معاصريه بالمخلّط، فقد قال منتجب الدينO (م600هـ ق) ما نصّه: >الشيخ محمد بن إدريس العجلي، بالحلّة، له تصانيف، منها: كتاب السرائر، شاهدته بالحلّة، وقال شيخنا سديد الدين محمود الحمصي - رفع الله درجته - : هو مخلّط لا يعتمد على تصنيفه<[16]، وهو كناية عن عدم الضبط[17].

ومما يشهد على ما ذكرناه، أنّ الحديث المتقدّم نقله في أوّل هذا الجواب أعني قوله بعدما نقل حديثاً لأبان: >قال: وقلت له: رجلٌ بال ولم يكن معه ماءٌ...<[18]، هذا الحديث نقله بعينه الكليني عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّادٍ، عن حريزٍ، عن محمّد بن مسلمٍ، قال: >قلت لأبي جعفرٍg: رجلٌ بال ولم يكن معه ماءٌ...<[19]، فهذا الحديث واضح السند في كتب أصحاب الحديث، ولا يصح أن يجعل الإجمال الناشئ من نقل ابن إدريس قرينة على وقوع الاضطراب في أصل حريز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رجال الكشي، ص382 و383.

[2] يعني روايته عن أبي الحسنg يعني الإمام الكاظمg.

[3] رجال النجاشي، ص144 و145.

[4] رجال الكشي، ص383 و384.

[5] الكافي، ج3، ص4.

[6] التهذيب، ج1، ص216 و217، ومثله في الاستبصار، ج1، ص12.

[7] السرائر، ج3، ص587.

[8] استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، ج4، ص197 و198.

[9] منتهى المقال في أقوال الرجال، 2، ص350.

[10] تهذيب المقال، ج5، ص217.

[11] هذا، ولم أعثر من رواية يونس عن حريز مباشرة في كتب الأصحاب إلاّ على موارد ثلاثة، ففي بصائر الدرجات، ج1، ص259، نقل عن يونس عن حريز قال: >سمعت أبا عبد اللهg...<، وفي الكافي، ج7، ص178 عن يونس عن حريز قال: >سألت أبا عبد اللهg...<، وفي الثالث كما في الكافي، ج1، ص58  بسند عن يونس عن حريز عن زرارة قال: >سألت أبا عبد اللهg...<. نعم، هناك روايات أُخر يرويها يونس عن حريز بواسطة عبد الله بن مسكان كما في الكافي، ج2، ص220، أو بواسطة عمرو بن شمر كما في تهذيب الأحكام، ج2، ص76.

[12] روضة المتقين، ج14، ص88.

[13] الكافي، ج3، ص60.

[14] التهذيب، ج1، ص262.

[15] التهذيب، ج1، ص23، وص260.

[16] فهرست منتجب الدين، ص113.

[17] في مقدّمة تحقيق كتاب السرائر، ج1، ص12 ما نصّه: >ومن غريب خبطاته ومستطرفاتها نسبته في مستطرفاته إلى أبان بن تغلب عدّة أخبار لا ربط لها به، فهو مخلّط في الحديث في أسانيدها ومتونها، وفي اللغة والأدب والتاريخ والفقه. ومن خبطه في الفقه: أنـّه ينتقد أتباع الشيخ الطوسي بأنـّهم يقلّدونه، بينما هو يقلّده أيضاً، وذلك فيما إذا اتفقت فتاواه، فإنـّه يتبعه حتى ولو كان مستندا الى آحاد، أمّا إذا اختلفت فتاواه في كتبه فإنـّه (يرجّح الفتوى غير الخبرية) ويعترض على فتواه الخبرية بكونه تمسكاً بالآحاد، حتى ولو كان مستنداً في ذلك إلى أخبار ملحقة بالتواتر<.

[18] السرائر، ج3، ص587.

[19] الكافي، ج3، ص19.

مشاركة: