قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".

ما معنى ونكتة قولهم أنّ الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص والتخصص؟


بسم الله الرحمن الرحيم

العبارة المعروفة في المقام عدم قابلية العامّ للتخصيص، وإلّا فلا مانع من الخروج التخصّصي، وسوف نبيّن هذه القاعدة بذكر مثال مشهور من المعقول تأكيداً على اختصاص هذه القاعدة في كلماتهم بمسألة الخروج التخصيصي، ثم نبيّن ما يمكن أن يطرح من نكات كدليل على هذه القاعدة، ونختم الكلام بعض التوظيفات لهذه القاعدة في كلمات الفقهاء والأصوليين، فهنا مباحث:

 

المبحث الأوّل: في بيان المثال المشهور من كتب المعقول

وهو بحث بحسب أصله من المباحث المنطقية حيث يراد التفرقة بين مفاد الهليات البسيطة والمركّبة، وبيان مورد قاعدة: >ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له<، وقد عكست هذه القاعدة إشكالية في الفلسفة، وتقريرها: أنّه قد وقع الكلام بينهم >في تحقيق اتصاف الماهية بالوجود<، وحاصل الإشكالية: أنّ في قولنا: >الماهية موجودة< قد أثبتنا الوجود للماهيّة، مع أنّ ثبوت الوجود للماهية فرع ثبوت المثبت له في رتبة سابقة أعني الماهيّة، كما يقتضيه قانون: >ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له<، فإنّ مقتضاه أنّ ثبوت الوجود للماهيّة فرع ثبوت الماهية، فيلزم من ذلك وجود الماهية وتحققها قبل وجودها.

قال صدر المتألهين: >قد اضطربت أفهام المتأخرين في اتصافها [يعني الماهية] به [أي بالوجود]، وصارت أذهانهم بليدة عن تصوّره من جهة أن ثبوت شي‏ء لشي‏ء فرع على ثبوت ذلك الشي‏ء في نفسه، فيلزم على تقدير هذا الاتصاف أن يكون الماهية موجودة قبل وجودها<[1].

وقد تعرّض في ضمن بحثه لجملة من أجوبتهم عن هذه الإشكالية، ومنها دعوى تخصيص القاعدة بما عدا الوجود من الصفات، فثبوت شيء لشي فرع ثبوت المثبت له، إلاّ في صورة ما لو كان المقصود إثبات صفة الوجود، ثم أجاب عن الإشكال بما حاصله: أنّ الوجود هو عين موجودية الماهية، وأنّه ثبوت الشي‏ء، لا ثبوت شي‏ء لشي‏ء.

قال: >ولم يحقق أحد منهم كنه الأمر في هذا المقام، من أنّ الوجود _ كما مرّ _ نفس موجودية الماهيّة، لا موجودية شي‏ء غيره لها كسائر الأعراض حتى لزم أن يكون اتصاف الماهية به فرع تحققها في نفسها، فالقاعدة على عمومها باقية من غير حاجة إلى الاستثناء في القضايا الكلية العقلية كما قد يحتاج إليه في الأحكام النقلية عند تعارض الأدلة<[2]، ثم أكّد بعد ذلك أنّ هذا مبني على أنّ الماهية موجودة والوجود من عوارضها، وأنّه لا إشكال من رأس بناءً على أصالة الوجود على تقريب ذكره لا غرض لنا به.

وكيف كان، فقاعدة الفرعية أعني ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، إنّما تجري في الهليات المركّبة حيث القصد إلى إثبات غير الوجود للذات، ولا تجري من رأس في مورد الهليات البسيطة.

وإلى هذا أشار الفاضل السبزواري في منظومته:

وفي بسيطة من الهليّة *********** لا تجرين قاعدة الفرعيّة

لأنّها ثبوت شيء قد بدت **** وهي لكون الشيء شيئاً قد حوت

وربّما بدّل باستلزام ********** أو خصّصت عقلية الأحكام[3]

وبعبارة واضحة: إنّ الهليات البسيطة تدلّ على ثبوت الشيء؛ باعتبار أنّ الوجود للماهيّة ليس من العوارض الخارجية، والماهية ليست أمراً متحققاً بدون الوجود كي يفرض ثبوت شي‏ء لشي‏ء[4].

ومن هنا تعرف أنّ >ثبوت الوجود للماهية< خارج تخصّصاً عن مفاد قاعدة الفرعيّة، وأنّ قاعدة الفرعية موضوعها من أوّل الأمر مختصّ بما لو كان المقصود إثباته من العوارض الخارجية، فلا حاجة للالتزام بتخصيص القاعدة العقلية، بل هو محال _ كما يأتي بيانه _ والخروج خروج تخصصي، ولذا عقّب الفاضل السبزواري المسألة بقوله عند عرض أجوبة القوم: >أو خصصت‏ بما عدا البسيطة عقلية الأحكام _ من إضافة الصفة إلى الموصوف _ مع أنّ الأحكام العقلية لا تخصص‏، والمخصص هو الإمام [يعني الرازي]. وأما القول المنصور فهو تخصّص<[5]، فنصّ على الخروج التخصّصي ولم يمانع منه، وبيّن عدم صحة ورود التخصيص في الأحكام العقلية.

 

المبحث الثاني: في الدليل على القاعدة

يمكن لنا تقريب استحالة التخصيص في الأحكام العقلية بإحدى نكتتين:

الأولى: أنّه يلزم من التخصيص في الأحكام العقلية الخلف، فإنّ العقل إذا حكم بقاعدة كليّة إنّما يحكم لإدراكه وجود العلّة التامّة للحكم في تمام مصاديق الموضوع، ففرض التخصيص في الحكم العقلي يعني عدم وجود العلّة، وهذا خلف، وبعبارة لصدر المتألهين: >التخصيص‏ في الأدلّة العقلية اعتراف ببطلانها، حيث يتخلّف المدلول عنها<[6] أي مع فرضها عقلية، يقتضي عدم التخلّف.

ولا يخفى عليك أنّ هذه النكتة لا ربط لها بالخروج التخصصي؛ باعتبار أنّ ما خرج تخصصاً ليس من أفراد الموضوع حقيقة، فلا يلزم من الخروج أي نقض للقانون الكلي.

ومن طريق آخر يمكن أن يقال: إنّ الأحكام الشرعيّة اعتبارات يتحدّد موضوعها على أساس ما يريده المعتبر، بخلاف الأحكام العقلية وما تعبّر به عن قضايا حقيقية تكوينية، ودور العقل اكتشاف تلك القوانين، ولا يمكن تخصيصها إلّا بتغيير الواقع والتكوين نفسه، وهو ما يلائم التخصّص.

الثانية: أنّ التخصيص في اصطلاح الأصولي قرينة يقصد منها الإخراج الحكمي، وهي مسألة مرتبطة بعالم الأدلّة والإثبات، ففي صورة التعارض _ يعني البدوي _ بين العامّ والخاصّ بحسب ظاهر الأدلّة، يقدّم الخاصّ على العامّ من باب الجمع العرفي، بحيث يكشف عن أنّ مراد المولى  ثبوتاً مرتبط بخصوص حصّة خاصّة من أفراد العامّ، لا تمام الأفراد.

وعليه، فالتخصيص فرع وجود مقامين للأدلة: مقام ثبوت مراد المولى الواقعي، وعالم إثبات حيث يظهر من العامّ بدواً إرادة العموم، وثم تقوم القرينة الخاصّة على أنّ المقصود ثبوتاً ليس إلاّ البعض.

ولا يخفى أنّ هذه النكتة لا يمكن إجراؤها في موارد الأحكام العقلية؛ لِمَا عرفت من أنّ التخصيص فرع وجود مقام ثبوت وإثبات، والقضايا العقلية مقام ثبوتها هو عين مقام إثباتها، أي مقام واقعها عين مقام وصولها، فلا يوجد ما ظاهره العموم المخالف للثابت واقعاً، حتى يجيء المخصص ويكون قرينة على بيان واقع المراد.

وإلى هذا المطلب أشار السيد السيستانيB بقوله: >ومنها: امتناع تخصيص الأحكام العقلية، وسرّ الامتناع أنّ التخصيص يرجع إلى أوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصص، والحكم العقلي ليس له مقامان إثبات وثبوت، واستلزام التخصيص لذلك أيضاً بلحاظ محتواه لا بلحاظ مفاده الاستعمالي<[7].

 

المبحث الثالث: في بيان بعض التوظيفات لاستحالة التخصيص في الأحكام العقلية

مثلاً: قد من قال بأنّ القطع حجيّته ذاتية، إنّما حكم بذلك كقاعدة عقلية، بدعوى التلازم الذاتي بين القطع والحجية، ومن هنا يحكم باستحالة ورود التخصيص على هذه القاعدة، ولو كان القاطع قطّاعاً، ولذا قال السيد الخوئيS: >إذا عرفت المراد من القطّاع، فاعلم أنّه ربّما يقال بعدم الاعتبار بقطعه، ولكن الصحيح خلافه؛ لما عرفت سابقاً من أنّ حجّية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل إثباتاً ونفياً، فهي غير قابلة للتخصيص‏ بغير القطّاع <[8].

ومن المسائل المهمة استبيان حال الدليل الشرعي، وأنّه في مقام التأسيس أو الإرشاد لحكم العقل، وفي كلّ مورد تقام قرينة على أنّ الخطاب الشرعيّ في مقام الإرشاد إلى حكم العقل، سوف يكون العامّ آبياً عن التخصيص تبعاً لتلك القاعدة، بخلاف ما لو كان الدليل شرعياً محضاً، حيث لا مانع من تخصيصه إلّا أن تقام قرينة خاصّة على كون العموم آبياً عن التخصيص لخصوصية فيه، وهذا بحث آخر.

وقد أشار إلى هذا السيّد الخوئيS عند الحديث عن الآيات الرادعة عن العمل بالظن، ودعوى إمكان تخصيصها: >إنّ الآيات الشريفة الناهية عن العمل بغير العلم إرشاد إلى حكم العقل بعدم صحّة الاعتماد على الظن، وأنّ العمل به ممّا لا يحصل معه الأمن من العقاب، لاحتمال مخالفته للواقع، والعبد لا بدّ له من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب، ولا يحصل الأمن إلّا بالعلم أو بما ينتهي إليه كالعلم بأمارة دلّ على حجيتها دليل علمي. وقد أشير إلى ذلك في عدّة من الآيات: منها: قوله تعالى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}[9] وقوله تعالى: {فَأْتُونا بسُلْطانٍ}[10] وبعد كون الآيات الناهية إرشاداً إلى حكم العقل لا تكون قابلةً للتخصيص‏<[11].

ــــــــــــــــــــــــ

[1] الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، ص11.

[2] الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، ص11.

[3] شرح المنظومة، ج2، ص390.

[4] انظر: شرح المنظومة، ج2، ص395.

[5] شرح المنظومة، ج2، ص396.

[6] الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج2، ص147.

[7] قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ص254 و255.

[8] مصباح الأصول (المطبوع ضمن الموسوعة)، ج47، ص57.

[9]  البقرة، 111.

[10]  إبراهيم، 10.

[11] مصباح الأصول (المطبوع ضمن الموسوعة)، ج47، ص132.

مشاركة: