"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
ما المقصود من قاعدة: >ترك الاستفصال أمارة العموم<، وما الفرق بينها بين الإطلاق اللفظي الثابت بمقدّمات الحكمة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل في هذه القاعدة -بحسب ما جاء في المحصول للرازي (ت 606هـ)-ما يؤثر عن محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) من قوله: >ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال<[1]، وقد شاع التمثيل بأن (ابن غيلان) أو (غيلان)[2] أسلَمَ على عشر نسوة، فقالe: «أمسك أربعاً، وفارق سائرهن»، ولم يسأله عن كيفيّة ورود عقده عليهن في الجمع، أو الترتيب، فكان إطلاقه القول دالاً على أنّه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معاً، وعلى الترتيب[3].
وقد يستظهر من بعض كلمات السيّد المرتضىS[4]، فقد جاء في الذريعة قوله: >إذا سُئلg عن حكم المفطر، فلا يخلو جوابه من ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون عامّ اللّفظ، نحو أن يقول: كلّ مفطر فعليه الكفارة. والقسم الثاني: أن يكون الجواب في المعنى عامّاً، نحو أن يُسألg عن رجل أفطر، فيدع الاستكشاف عمّا به أفطر، ويقولg: عليه الكفارة، فكأنّهg قال: من أفطر فعليه الكفارة. والقسم الثالث: أن يكون السؤال خاصّاً، والجواب مثله، فيحلّ محلّ الفعل»[5] أي محل فعل المعصومg من حيث دعوى الإجمال أو البيان على ما تقدّم توضيحه منه في عبارة سابقة.
وموضوع الشاهد القسم الثاني أعني قولهS: >فيدع الاستكشاف< فإنّه عين المقصود من قولهم: >ترك الاستفصال<، وإن كان يحتمل أن يكون مقصوده شيئاً آخر يأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - عند توضيح القاعدة.
وكيف كان، فلعلّ أوّل من تعرّض لهذه القاعدة بالصراحة في كتبنا الأصوليّة العلامة الحليS (ت726هـ)، ففي النهاية جعل فصلاً تحت عنوان: >فيما لحق بالعامّ وليس منه<[6]، وفيه جملة من المباحث، وقد جاء في المبحث الثامن قوله: >اعلم أنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يقوم مقام العموم في المقال...< [7].
ثم شاع التعرّض لهذه القاعدة في كثير من كتب الأصول -وما بحكمها ككتب القواعد الفقهية- المتأخرة عنه، كالقواعد والفوائد للشهيد الأوّلS (ت786هـ)[8]، وبتبعه الفاضل المقدادS (ت826هـ) في نضد القواعد الفقهية[9]، والشهيد الثانيS (ت966هـ) في تمهيد القواعد[10]، والوافية للفاضل التونيS (ت1071هـ)[11]، ونقد الأصول الفقهية للفيض الكاشاني (ت1091هـ)[12]. وفصّل الأعلام الحديث عن هذه القاعدة لا سيّما في القرن الثالث عشر كما في كلمات المحقق مهدي النراقيS (ت1209هـ)[13]، والمحقق القميS (ت1231هـ)[14]، والسيد المجاهدS (ت1242هـ)[15]، والسيد إبراهيم القزوينيS (ت1262هـ)[16]، لكن لم تذكر هذه القاعدة في كلمات الآخوندS (ت1329هـ) في الكفاية وإن استشهد بها في بعض مباحث الاستصحاب من دون بيان لمدركها[17]، ولعلّه السبب في إهمال البحث عنها في كتب الأصول المتأخرة، بعد أن كانت الأبحاث الأصوليّة غالباً ما تلحظ الكفاية في الترتيب وطبيعة المسائل المطروحة، لكن هذا لم يمنع الفقهاء من عرض كثير من النكات المهمّة في أثناء بحثهم الفقهي إلى يومنا هذا، وسوف نستشهد -إن شاء الله تعالى - ببعض نكاتهم المذكورة هناك لا سيّما ما ذكره الشهيد الصدرS في بحثه الفقهي على ما يأتي في النقطة الخامسة، وإن كان الأنسب إعادة طرح هذه المسألة في ضمن البحث الأصوليّ لمكان أهميتها.
وكيف كان، فسوف نوقع البحث في بيان المراد من هذه القاعدة والفرق بينها وبين الإطلاق اللفظي في ضمن نقاط خمس:
النقطة الأولى: في بيان المقصود الأوّلي من هذه القاعدة
وسوف نركّز أثناء البيان على خصوص هذه القاعدة، جاعلين كلام الشافعي كأصل لها، مع إلفات النظر إلى وجود شيء من التضارب فيما ينقل عن الشافعي؛ باعتبار أنّه كما نقل عنه قوله: (حكاية الحال إذا ترك فيها الاستفصال تقوم مقام العموم في المقال)، كذلك نقل عنه قوله: (حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال)[18].
وكيف كان، فالمنظور إليه في هذه القاعدة إذا ورد سؤال، وكان السؤال يحتمل وجوها متعدّدة، وقد أجاب المتكلّم الحكيم من دون سؤال عن تفاصيل الواقعة، فإنّ مقتضى ترك الاستفصال (أي عدم السؤال عن تفاصيل الواقعة) الحكم بكون الحكم ثابتاً في جميع الصور التي يحتملها السؤال.
فالمقصود من قوله: >ترك الاستفصال< أي ترك المجيب الحكيم أو قل: المسؤول أو المعصوم ما شئت فعبّر، >في حكاية الحال< أي في حكاية السائل واقعة من وقائع الأحوال التي وقعت خارجاً، >مع قيام الاحتمال< أي مع وجود محتملات في الواقع خارجاً للمسؤول عنه، >ينزل منزلة العموم في المقال< أي منزلة تصريح المسؤول بالعموم.
ومما ينبغي التنبيه عليه أنّ مورد هذا القاعدة كما عرفت (حكاية الحال) أي أن يكون السؤال عن واقعة شخصية خارجيّة حصلت بالفعل، ولم يستفصل النبيe -مثلاً - عن بعض التفاصيل، فيمكن لنا تسرية الحكم إلى جميع الصور المحتملة. وإلّا فلو كان السؤال عن قضية مقدّرة الوجود، فلا إشكال بينهم -أو لا ينبغي الإشكال- في وجوب الحمل على العموم، وعلى هذا الأساس يمكن تخريج المثال الذي ذكره السيّد المرتضىS، وقد يعبّر عنه في كلمات بعضهم بـ(تنقيح المناط)[19].
وهذه النكتة يمكن استفادتها من لفظ القاعدة، وكثير من التطبيقات الفقهية كما في قصة (غيلان)، لكن في عبارة الشهيد الأوّل ما يظهر منه أنّ القاعدة شاملة لصورة ما لو كان الموضوع مقدّر الوجود، وأنّ الصحيح الحكم بأنّ ترك الاستفصال فيها أمارة العموم، قالS: >فائدة: قسّم بعض الأصوليين ترك الاستفصال في حكاية الحال إلى أقسام... الثالث: أن يسأل عن الواقعة باعتبار دخولها في الوجود، لا باعتبار أنّها وقعت، فهذا أيضاً يقتضي الاسترسال على جميع الأقسام التي تنقسم عليها، إذ لو كان الحكم خاصّاً ببعضها لاستفصل، كما فعل النبيe لما سُئل عن بيع الرطب بالتمر: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن).
الرابع: أن تكون الواقعة المسئول عنها قد وقعت في الوجود، والسؤال عنها مطلق، فالالتفات إلى القصد الوجوديّ يمنع القضاء على الأحوال كلها، والالتفات إلى إطلاق السؤال وإرسال الحكم من غير تفصيل يقتضي استواء الأحوال في غرض المجيب، فمن قال بالعموم لأجل ترك الاستفصال التفت إلى هذا الوجه، وهو أقرب إلى مقصود الإرشاد، وإزالة الإشكال<[20].
وكما ترى، فقد وقع التمييز بين صورة السؤال عن (الواقعة باعتبار دخولها في الوجود) والسؤال عن (واقعة وقعت في الوجود)، والأوّل كالتعبير في المنطق عن القضايا الحقيقية بأنّ موضوعها مقدّر الوجود، أي على تقدير دخولها في الوجود، فتلك لا ينبغي الإشكال في اقتضاء الجواب العموم، باعتبار أنّ الحكم انصبّ حينئذٍ على ذلك الموضوع المفروض، بخلاف صورة (واقعة وقعت في الوجود) فإنّه الذي ينبغي أن يكون محلاً للبحث، فمن جهة وقوع الواقعة وكونها شخصية فالموضوع مقيّد، ومن جهة الجواب هناك عموم.
وكيف كان، فسواء أكانت صورة السؤال عن موضوع مقدّر الوجود داخلة في موضوع القاعدة أم لا، لا ينبغي الإشكال في أنّ الجواب مع عدم التقييد يقتضي العموم؛ لظهور الجواب في أنّ تمام موضوعه ما ذكر في السؤال من موضوع، ولو أراد القيد لذكره، وهو لم يقله فلا يريده كما هو الحال في جميع موارد الإطلاق اللفظي.
وما جاء في عبارات الفاضل التونيS من (اختصاص القول بالعموم فيما لو لم يكن هناك انصراف)، لا يغيّر في نتيجة البحث؛ باعتبار أنّ الانصراف مانع من الشمول في جميع موارد الإطلاق، قال: >وإن كانت جهات وقوعها واحتمالاته متساوية، لا مرجّح لشيء منها في عصرهمi، فالظاهر: العموم، إذ عدم الانصراف إلى شيء منها يوجب إلغاء الدليل، والصرف إلى البعض ترجيح بلا مرجّح، فينصرف إلى الكلّ، وهو معنى العموم<[21].
النقطة الثانية: في الدليل على هذه القاعدة
قد عرفت من النقطة السابقة أنّ معنى القاعدة أو ما ينبغي أن يكون محلاً للإشكال ليس إلّا ما لو كان المسؤول عنه واقعة معيّنة قد حدثت بالفعل، نقول: قد قرّب الاستدلال بهذه القاعدة بوجهين أساسيين:
الوجه الأوّل: ما يمكن اقتناصه من كلمات الفاضل التوني[22]، وحاصله: أنّ الواقعة المسؤول عنها إن كانت ذات محتملات متساوية، ولا مرجح لشي منها، يدور أمرها بين أمور ثلاثة:
الأوّل: الحمل على أحد المحتملات بعينه، وهو ترجيح بلا مرجح أي بلا شاهد ولا دليل.
الثاني: عدم الحمل على شيء منها، هو إبطال للدليل.
الثالث: الحمل على العموم، وهو المتعيّن.
ولا يخفى أنّ هذا البيان لا يوضح وجه بطلان الاحتمال الثاني، فإنّ ترك الدليل لإجماله ليس بالأمر العسير، وكثيراً ما يقع من العلماء، ومن هنا نحتاج لتخريج هذه القاعدة إلى وجه آخر.
الوجه الثاني: ما جاء في كلمات المحقق النراقي[23]، وحاصله: أنّ إطلاق السؤال وعدم بيان القيد فيه، مع عدم ورود أي قيد في الجواب، وإرسال الحكم من غير تفصيل، يقتضي استواء الأحوال في غرض المجيب عرفاً، فلو كان في قصده الاختصاص بالبعض ولم يبيّنه لزم الإغراء بالجهل، وهو ينافي الحكمة. ولعلّ هذا الوجه هو عمدة في ما ذهن العلماء على ما يأتي عرضه في النقطة اللاحقة.
وإلى هذا يرجع ما تقدّم نقله عن الشهيدS من جعله الحمل على العموم: (أقرب إلى مقصود الإرشاد، وإزالة الإشكال).
النقطة الثالثة: عمدة ما استشكل به على القاعدة
بعدما عرفت من موضوع القاعدة وأنّه ما لو كان المسؤول عنه قضية شخصية واقعة بالفعل، ولم يبيّن في السؤال تمام الظروف التي وقعت فيه تلك القضية، وأنّ المقصود أنّ ترك استفصال المسؤول الحكيم أمارة العموم، وإلّا فلو كان الحكم مختصّاً بظرف لكان ينبغي السؤال أو التفصيل بين تقديرات الوجود، وإلّا لكان مغرّراً، وهو خلف كونه في مقام الإرشاد.
ومن هنا فعمدة ما يستشكل على هذه القاعدة أنّ نكتة الإرشاد صحيحة، لكن لا تبرر الحمل على العموم، بل من الممكن أن يكون المسؤول قد علم خصوصيات المسؤول عنه، وقد أجاب على أساس ما علمه، تبعاً لِما قد يظهر لنا من إجمال وتردّد في السؤال.
ومن هنا اشترط بعض العلماء لاستفادة العموم أن يعلم أو يظنّ -بناء على حجية مطلق الظنون في مثل هذه المسائل وإلّا فلا بدّ من ظنّ معتبر- بعدم اطّلاع المسؤول على الخصوصيات، وإلّا فلا يعلم قصده العموم، بل الجواب على قدر ما علمه من خصوصيات السؤال.
قال العلامة الحليS: >والأقرب، التفصيل فنقول: إن علم أو ظنّ أنّهe لم يعلم خصوص الحال، وجب القول بالعموم، وإلّا لبيّنe الفرق، وإن لم يعلم ذلك، لم يحكم بالعموم؛ لاحتمال أنّهe عرف خصوصيّة الواقعة، فترك الاستفصال، بناء على معرفتهe<[24].
وبعض العلماء لم يشترط إلّا عدم العلم باطلاع المسؤول وما بحكمه، وإلّا فلو شكّ فالأصل عدم الاطلاع يعني أصالة عدم الحادث أو الاستصحاب على الكلام في رجوعهما إلى قاعدة واحدة أم لا.
قال المحقق مهدي النراقي: >وكذا الحكم إن لم يعلم اطّلاعه وعدم اطّلاعه؛ لأنّ الأصل عدم الاطّلاع؛ لما تقدّم من أصالة عدم الحادث إلى أن يعلم الوجود<[25]، وهو المذكور في كلمات الفيض الكاشانيS (ت1091هـ)[26].
إن قلت: لعلّ السؤال احتفّ بقرينة أوجبت علم المسؤول بخصوصيات الواقعة، ولم تنقل لنا هذه القرينة.
قيل: في صورة الشكّ في القرينة المجرى أصالة عدمها، بل ما تبادر إلى ذهن المخاطب هو ما يتبادر إلى ذهننا، وقد عرفت إجماله واحتماله لصور متعددة، وعدم الاستفصال أمارة العموم.
ولا يبعد أن يكون المقصود الأصلي من القاعدة هو هذا، وإلّا فمن البعيد الالتزام بعمومية القاعدة حتى لصورة علمنا بعلم المخاطب (المسؤول) بخصوصيات السؤال، بل في كلّ مورد لم يقم دليل معتبر على علمه بالخصوصيات يمكن إجراء القاعدة.
هذا، وقد خرّج بعض الأعلام هذه المسألة مع النظر إلى خصوصية المعصومg، وأنّه المسؤول، وبنى المسألة على بيان حقيقة علم المعصومg، بدعوى أنّه بناءً على أنّ علم المعصومg علم فعليّ لا شأني إرادي، سوف يحكم بوجود اطّلاعه على تمام الخصائص أبداً[27]، فيبطل ما ذكر من التفصيل، لكنّه غير واضح وإن قلنا بأنّ علمهg فعليّ، لكن لم يعلم أنّ خطاباته العرفية تحمل على علمه الخاصّ، ما لم تقم قرينة واضحة على إعمال ذلك العلم اللدني.
النقطة الرابعة: في بيان مقتضى التحقيق
قد عرفت أنّ قاعدة: (ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) مجراها الوقائع الشخصية لا الوقائع المقدّرة الوجود، وعلى تقدير قصد العموم كما يظهر من بعض كلمات الأعلام، فلا ينبغي الإشكال في صورة كون المسؤول عنه أمراً مقدّر الوجود في صحة استفادة العموم.
وعلى كلّ، فمقتضى التحقيق التفصيل بين موردين من موارد قاعدة ترك الاستفصال، فيصحّ تطبيق القاعدة في مورد دون آخر[28]:
المورد الأوّل: أن يكون السؤال المحتمل لصور متعدّدة مجملاً بالنسبة لنا نحن المتلقين للنصّ، بسبب مشكلة في اللغة، أو جهل بالواقع الخارجي زمن النصّ بحيث يحتمل احتمالاً معتدّاً به وجود انصراف إلى فرد متعارف، وما شاكل ذلك مما لا أصل عقلائياً نافياً له، فهنا لا وجه للتطبيق هذه القاعدة؛ لمكان احتمال اطلاع المسؤول على واقع القضية بخلافنا.
وبناءً على ما ذكرناه، يمكن أن يستنتج قاعدة مؤدّاها: >إجمال السؤال لدينا، يوجب إجمال الجواب لدينا<.
المورد الثاني: أن نحرز أنّ السؤال في نفسه مجمل إجمالاً مطلقاً حتى في ظرف صدوره، بحيث نحرز أنّ المخاطب (المسؤول) لم يفهم أزيد مما جاء في السؤال، وقد أجاب على طبق السؤال مع ما فيه من غموض في جملة من جوانبه، فهنا ترك الاستفصال يعني عدم اعتناء المتكلّم بتلك الخصوصيات حين إصدار الحكم، وأنّ الحكم يجري على هذه الواقعة وغيرها على حدّ واحد.
مثلاً: لو فرض أنّ السائل سأل عن حكم بيع الولد مال أبيه من دون إذن الأب، فصحح الإمامg البيع فيما لو أجاز الأب، وكان السؤال في زمن النصّ يحتمل أن يكون بيع الولد مال أبيه لنفسه كما يحتمل أن يكون البيع لأبيه، ويحتمل أن يكون البيع لأبيه مسبوقاً بالمنع من أبيه كما يحتمل أن لا يكون مسبوقاً بذلك، ولم يستفصل الإمامg في الجواب، بل حكم بالصحة، فهنا ترك الاستفصال يوجب العموم، وأنّه لو كان الحكم منصباً على حالة دون أخرى، لكان ينبغي السؤال عمّا وقع بالتفصيل، فتجري نكتة الإرشاد المتقدّم بيانها.
نعم، قد يناقش صغروياً في إمكان إحراز مثل هذا الأمر، لعدم اطلاعنا على ظروف واقع النصّ بتمامها، وفي المثال المذكور لعلّ الشائع في البيع الفضولي هو البيع للمالك من دون سبق للمنع، فهنا لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن إن كان، وإلّا فالحكم هو الإجمال كالسابق. كما يمكن لشخص يؤمن بأصالة عدم الحادث وما شاكلها من الأصول أن يرجع كثيراً من مصاديق المورد الأوّل إلى الثاني.
وكيف كان، وعلى مستوى كبروي وبعيداً عن صعوبة تطبيق هذه القاعدة خارجاً، يمكن أن يُقال: إنّ ترك الاستفصال أمارة العموم صحيحة، في موارد الإجمال المطلق، وأنّ إجمال السؤال إن كان إجمالاً مطلقاً حتى بلحاظ المخاطب، فالإجمال لا يسري من السؤال إلى الجواب، بخلاف ما لو كان الإجمال نسبياً بلحاظنا.
النقطة الخامسة: في الفرق بين ترك الاستفصال والإطلاق اللفظي
قد عرفت أنّ العلامة الحليS قد بحث هذه القاعدة في ضمن الحديث عمّا هو في حكم العامّ من حيث استفادة الشمول، وإن لم يكن هناك أداة دالّة على العموم، ومن هنا يصح أن يُقال: إنّ (ترك الاستفصال) ملاك من ملاكات استفادة الإطلاق والشمول، وهو متكئ -كما عرفت فيما مضى- على نفس النكتة التي يستند عليها الإطلاق اللفظي، فإنّ قرينة الحكمة وكون المتكلّم في مقام الإرشاد تقتضي في الإطلاق اللفظي أنّه لو أراده -مع كونه في مقام البيان وقادراً على قوله- لقاله، لكنّه لم يقله فهو لا يريده، وعين هذه النكتة نذكرها في الإطلاق بملاك ترك الاستفصال، وأنّه لو كان حكمه مختصاً باحتمال من محتملات السؤال لاستفصل، لكنّه لم يستفصل -مع كونه في مقام البيان وقادراً على الاستفصال- فهو لا يريده.
وأمّا نكتة الفرق بين الإطلاق بملاك ترك الاستفصال وبين الإطلاق بملاك مقدّمات الحكمة، فهو ظاهر بناءً على اختصاص قاعدة (ترك الاستفصال) بالقضايا الشخصية أي حيث يتوجه السؤال في موضوع محدّد، فإنّ الإطلاق اللفظي عبارة عن تمسك بإطلاق مفهوم كلي في الكلام، كالعالم في قولنا: >أكرم العالم<، وأمّا في (ترك الاستفصال) لا يوجد لفظ مفهوم كلي في البين، بل واقعة جزئية حكى عنها السائل، ولم يوضحها من كل الجوانب، فترك الاستفصال شاهد على عدم الاعتناء بتلك الخصوصيات، وأنّ الحكم جار على جميع التقادير.
قال الشهيد الصدرS في بعض أبحاثه الفقهية، وعند بيان سبب عدم إمكان التمسك بإطلاق لفظي في إحدى الروايات: >لوضوح أنّ القضية شخصيّة بحسب الفرض، وليس الحكم فيها وارداً على فرض كليّ ليتمسك بإطلاقه<[29]، فشرط التمسك بالإطلاق اللفظي أن يكون الحكم وارداً على فرض كليّ، لا على فرض شخصي.
إن شئت قلت: في الإطلاق اللفظي الموضوع الذي انصب عليه الحكم ذو سعة، فيمكن أن يتمسك بإطلاقه، بخلافه في مورد قاعدة ترك الاستفصال حيث إنّ الموضوع الوارد في السؤال قضية شخصية خارجية لا سعة لها حتى يتمسك بإطلاقها، بل نكتة استفادة الشمول الإجمال العرضي مع ترك الاستفصال على ما تقدّم توضيحه.
وبعبارة أخرى: المقصود من قاعدة ترك الاستفصال جعل الحكم شاملاً لجميع محتملات الموضوع المذكور في السؤال، مع أنّ المذكور في السؤال قضية شخصية لا سعة لها، فلا تكون مورداً للإطلاق اللفظي، بخلافه موارد الإطلاق اللفظي حيث يكون موضوع الحكم عنواناً كلياً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المحصول، ج2، ص386، وقد نصّ على أنّ الأصل في هذه القاعدة الشافعي في كلمات الشهيد الثاني، كما في تمهيد القواعد، ص170، قال: >وأصل هذا الكلام والقاعدة للشافعي<.
[2] الترديد باعتبار ما جاء في كتب الأصول، وإلّا فالظاهر أنّه (غيلان بن سلمة) شاعر في الجاهلية معروف بالحكمة، دخل الإسلام في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح الطائف، فلاحظ: الإصابة في تمييز الصحابة، ج5، ص253، وقد ذكر في ص255 قصة إسلامه على عشر نسوة.
[3] ذكره الرازي في المحصول، ج2، ص387، والعلامة (ت726هـ) في النهاية، ج2، ص192، والشهيد الثاني (ت 966هـ) في تمهيد القواعد، ص170، ومهدي النراقي (ت1209هـ ق)، أنيس المجتهدين، ج2، ص732.
[18] انظر: الفروق، ص153، ولا بأس بنقل عبارته هنا: >الفرق الحادي والسبعون: الفرق بين قاعدة حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال، وبين قاعدة حكاية الحال إذا ترك فيها الاستفصال تقوم مقام العموم في المقال ويحسن بها الاستدلال. هذا موضع نقل عن الشافعي فيه هذان الأمران على هذه الصورة، واختلفت أجوبة الفضلاء في ذلك. فمنهم من يقول هذا مشكل. ومنهم من يقول هما قولان للشافعي. والذي ظهر لي أنهما ليستا قاعدة واحدة فيها قولان، بل هما قاعدتان متباينتان ولم يختلف قول الشافعي ولا تناقض. وتحرير الفرق بينهما ينبني على قواعد:
القاعدة الأولى: أن الاحتمال المرجوح لا يقدح في دلالة اللفظ وإلّا لسقطت دلالة العمومات كلها لتطرق احتمال التخصيص إليها، بل تسقط دلالة جميع الأدلة السمعية لتطرق احتمال المجاز والاشتراك إلى جميع الألفاظ لكن ذلك باطل، فتعيّن حينئذٍ أنّ الاحتمال الذي يوجب الإجمال إنّما هو الاحتمال المساوي أو المقارب أما المرجوح فلا.
القاعدة الثانية: أنّ كلام صاحب الشرع إذا كان محتملاً احتمالين على السواء صار مجملاً وليس حمله على أحدهما أولى من الآخر.
القاعدة الثالثة: أن لفظ صاحب الشرع إذا كان ظاهراً أو نصاً في جنس وذلك الجنس متردد بين أنواعه وأفراده لا يقدح ذلك في الدلالة... إذا تحررت هذه القواعد فنقول: الاحتمالات تارةً تكون في كلام صاحب الشرع على السواء فتقدم، وتارة تكون في محل مدلول اللفظ فلا تقدح، فحيث قال الشافعي: إن حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال مراده إذا استوت الاحتمالات في كلام صاحب الشرع، ومراده أن حكاية الحال إذا ترك فيها الاستفصال قامت مقام العموم في المقال، إذا كانت الاحتمالات في محل المدلول دون الدليل<.
هذا، وفي عبارات الشهيد الأوّل كما في القواعد والفوائد، ج1، ص206 ما يظهر منه أنّ التفرقة على أساس أنّ ترك الاستفصال موردها صدور خطاب من المتكلم، بخلاف مسألة حكاية الحال، حيث المحكي فعل من أفعال النبيe _ مثلاً _ والفعل دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن كما في التعبيرات الأصولية الحديثة، قال: >والفرق بين ترك الاستفصال وقضايا الأحوال: أن الأول ما كان فيه لفظ وحكم من النبيe بعد السؤال عن قضية يحتمل وقوعها على وجوه متعددة، فيرسل الحكم من غير استفصال عن كيفية تلك القضية كيف وقعت، فان جوابه يكون شاملا لتلك الوجوه، إذ لو كان مختصا ببعضها والحكم يختلف لبيّنه النبيe. و أمّا قضايا الأعيان، فهي الوقائع التي حكاها الصحابي ليس فيها سوى مجرد فعلهe، أو فعل الّذي يترتب الحكم عليه، ويحتمل ذلك الفعل وقوعه على وجوه متعددة، فلا عموم له في جميعها، فيكفي حمله على صورة منها<.
[28] عمدة النكات التي نذكرها هنا تستفاد من كلمات الشهيد الصدرS في بحثه الفقهي، ينظر: بحوث في شرح العروة الوثقى، ج1، ص327.
[29] بحوث في شرح العروة الوثقى، ج2، ص176.