قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".

السؤال: ما المقصود من (ساخت الأرض) في قولهg: >إذا ذهب الأحد عشر من ولدي ساخت‏ الأرض بأهلها ولم ينظروا<؟ 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 مادّة (سوخ) التي اشتقت منها كلمة: >ساخ< تدلّ على انخساف في الأرض، يقال: سَاخَتِ الأرضُ تَسُوخُ سَوْخاً وسُوُوخاً: انخسفت[1]، ويقال للأقدام إذا غاصت في الأرض عند المشي: >تَسُوخُ الأقدامُ في الأرض<[2]، ويقال: >مُطِرْنا حتى صارت الأرض سُوَّاخَى، على فُعَّالَى، وذلك إذا كثرت رٍزاغُ المطر. وإِذا كانت كذا ساخت قوائمُ المارّة فيها<[3].

وقد روي في الأثر في حديث سراقة والهجرة: >فساخت يد فرسي<[4]، فقال ابن الأثير: >أي غاصت في الأرض. يقال: سَاخَتِ الأرض به تَسُوخُ وتَسِيخُ<[5]، وفي الخبر عن أبي عبد اللهg في وصف الجبل الذي جعل دكّاً، قال: >ساخ‏ الجبل في البحر فهو يهوي حتى الساعة<[6].

وعلى هذا الأساس فسّر ما ورد في قصة نبوع الماء لهاجر، فقد ورد: >ثم أقبلت راجعةً إلى ابنها فإذا عقبُه يفحص في ماءً فجمعتْهُ فساخَ ولو تركتْهُ لساحَ<[7]، فالمقصود من السوخ هنا استقراره ورسوبه في الأرض، ولو تركته لجرى على وجه الأرض كما أوضح الفيض الكاشانيO[8].

هذا من حيث اللغة، وتطبيقه على ما ورد في الأخبار الكثيرة التي لا يبعد دعوى تواترها واضح، فإنّ المقصود من سوخ الأرض الإشارة إلى الانخساف إلى أن يصل الأمر إلى زوالها ودمارها، فهذه الأخبار تحكي عن ربط بين بقاء الأرض وبين بقاء الإمامg عليها، كما هو المنصوص عليه في قول أبي الحسنg: >لا تبقى إذاً لساخت<[9]، والتعبير بـ>لا تبقى الأرض< عند فقد الإمامg مستفيض في الأخبار[10]، والقدر المتيقن من الأرض سطح الأرض بما هي قابل لحياة الناس، ولا يعلم أن يكون المقصود من ذلك كلّ الكرة الأرضية.

وإن شئت مزيداً من الإيضاح، نقول: إنّ الآيات القرآنية تؤكّد على حقيقة ارتباط الجبال بالأرض، وأنّ نسبة الجبال إلى الأرض نسبة الأوتاد إلى ذي الوتد، فقال تعالى: ﴿والجِبَالَ أوتَادا[11] والوتد هو ما رزّ في الأرض  أو حائط[12]، أي ثبت فيه[13]، وبهذا الاعتبار أطلق في القرآن على الجبال اسم الرواسي، فقد قال تعالى: ﴿والجِبَالَ أرسَاهَا[14]، يقال: رَسَا الشيء يَرْسُو: ثبت[15]، ورسا الجبل يرسو، إذا ثبت أصله في الأرض[16].

ثم قد بيّنت العلّة من إرساء الجبال وتثبيتها بالأرض في جملة من الآيات، كقوله تعالى: ﴿وألقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أن تَميْدَ بِكُمْ﴾[17]، و﴿وجَعَلنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أنْ تَميْدَ بِهِم﴾[18] و﴿خَلَقَ السَّمَاوَتِ بِغَيرِ عَمَد تَرَونَهَا وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أن تَميْدَ بِكُمْ﴾[19]، والميد هو الاضطراب العظيم[20]، فتثبيت الجبال هو المانع من الاضطراب وما يلزمه من انخساف.

وقد أشير إلى هذا المعنى بقول أمير المؤمنينg: >وجَعَلَهَا للأرْضِ عِمَاداً وأرَّزهَا فِيهَا أوْتَاداً فسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا من أن تَميدَ بأهلِهَا أوْ تَسِيْخَ بحَمْلِهَا أوْ تَزُولَ عَنْ مَوضِعِهَا<[21].

ومن هنا أكّد على حقيقة إزالة الجبال بألفاظ متعدّدة في بيان صورة من صور قيام الساعة[22]، وكما أنّ الجبال من أركان ثبات الأرض وعدم انخسافها فكذلك حال الإمامg، وقد روي عن عليّ بن الحسينg قال: >نحن أئمّة المسلمين وحجج الله على العالمين وسادة المؤمنين وقادة الغرّ المحجّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمانٌ‏ لأهل‏ الأرض‏، كما أنّ النّجوم أمانٌ لأهل السّماء، ونحن الّذين بنا يمسك الله‏ السّماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه‏، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزّل الغيث، وتنشر الرّحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها <[23]، الحديث.

فلاحظ الاقتران بين قولهg: >وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها<، وبين قولهg >ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها<، وقارن بين هذا المعنى وما عرفته من حال الجبال وارتباطها التكويني بثبات الأرض.

وعلى هذا الأساس يتضح ما ورد من قول أبي جعفرg: >لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعةً لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله<[24].

وقد عرفت في رواية أمير المؤمنينg استعمال كلمة: >أرّزها< -أي ثبتها- بالنسبة للجبال التي جعلت أوتاداً في الأرض، وقد استعمل عين هذا التعبير بالنسبة للأئمةi، فقد جاء في أصل أبي سعيد العصفري بسنده عن أبي جعفرg قال: >قال رسول اللهe: إنّي وأحد عشر من ولدي وأنت يا عليّ رزّ (زرّ) الأرض‏ -أعني‏ أوتادها [و] جبالها- وقد وتّد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الأحد عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا<[25].

وفي بعض الأخبار التأكيد على قيام الساعة في صورة فقد الإمامg، كما في المروي عن جابر بن يزيد الجعفيّ قال: >قلت لأبي جعفرٍ محمّد بن عليٍّ الباقرg: لأيّ شي‏ءٍ يحتاج إلى النّبيّ والإمام؟  فقال: لبقاء العالم على صلاحه، وذلك أنّ الله a يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبيٌّ أو إمامٌ، قال اللهa:‏ ﴿وَمَا كَانَ ٱلله لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم﴾[26]،‏ وقال النّبيّe: النّجوم أمانٌ‏ لأهل‏ السّماء وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض، فإذا ذهبت النّجوم أتى أهل السّماء ما يكرهون‏، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون< الحديث[27].

والحاصل: أنّ تلك الأخبار تبيّن العلقة التكوينية بين وجود الإمامg وبين بقاء الأرض سواء بلحاظ وجودها أو بلحاظ بقاء انتظامها التكويني، ولذا قال العلامة المجلسيS عند بيانه معنى (تسيخ): >أي تنخسف مع أهلها إمّا حقيقةً، أو كنايةً عن تزلزلها وعدم انتظامها، وتبدّل أوضاعها، وسائر ما يكون عند قرب الساعة<[28].

ومما يؤكّد هذا المعنى ما جاء في جملة من الأخبار كالمروي عن أبي جعفرg: >لو أنّ الإمام رُفع من الأرض ساعةً لَمَاجَت بأهلها كما يموج البحر بأهله<[29]، فإنّ الساعة في أصل اللغة جزء من أجزاء الزمان[30]، أو قل: هي جزء من أجزاء الليل والنهار[31]، وكثيراً ما تستعمل في القرآن الكريم وأخبار أهل البيتi منكّرة، فيقصد منها مقدار قليل من الوقت كاللحظة، قال تعالى:﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ فإذَا جَاءَ أجَلُهُم لَا يَستَأخِرُونَ سَاعَة ولا يَستَقدِمُونَ﴾[32]، و﴿ويَومَ يَحشُرُهُم كَأن لم يَلبَثُوا إلّا سَاعَة منَ النَّهَارِ يَتعَارَفُونَ بَيْنَهُم قَد خَسِرَ الذِينَ كَذَّبُوا بلِقَاءِ الله ومَا كَانُوا مُهتَدِينَ﴾[33]، و﴿قُل لا أمْلِكُ لنَفسِي ضَرّاً وَلَا نَفعاً إلّا مَا شَاءَ اللهُ لكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ إذَا جَاءَ أجَلُهُم فلَا يَستأخِرُونَ سَاعَة ولَا يَسْتَقدِمُونَ﴾[34]، و﴿ولَو يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بظُلمِهِم ما ترَكَ عَلَيهَا مِن دَابَّة ولكِن يُؤَخِّرُهُم إلَى أجَلٍ مُّسَمّى فإذَا جَاءَ أجَلُهُم لَا يَستأخِرُونَ سَاعَة ولَا يَستَقدِمُونَ﴾[35]، وهو المقصود في الحديث الآنف الذكر.

هذا، وفي شرح المازندراني على الكافي قال في بيان معنى قولهg: >لساخت الأرض<: >أي لغاصت في الماء وغابت، ولعلّه كناية عن هلاك البشر وفنائهم<[36]، وعلّق عليه الشيخ الشعراني بقوله: >أنكر السيد المرتضىO في الشافي أن يكون مذهب الإمامية زوال‏ الارض‏ وهلاكها تكويناً، أمّا قولهم: «لولا الحجة لساخت الأرض»، فإن ثبت صدوره من الإمام المعصوم كان المراد الفتنة والضلال وهلاك الناس بزوال الأمن والسعادة؛ لأنّ عدم وجود الإمام العادل المتصرّف: إمّا أن يكون بعدم وجود أمير مطلقاً وفساده ظاهر، وإمّا بوجود جائر أو جاهل وهو مثله<، ثم عرض لبعض كلمات الفلاسفة في سياسة المدن، وبيان وجه الحاجة إلى الحاكم. 

هذا، وما نسبه إلى السيّد المرتضىS لعلّه ناظر إلى قول السيّد في ردّه على عبد الجبار المعتزلي الذي حكى عن بعض الإماميّة قولهم: >لولا الإمام لما قامت السّماوات والأرض‏، ولما صحّ من العبد الفعل<[37]، فعلّق عليه بقوله: >ليس نعرفه قولاً لأحد من الإماميّة تقدّم ولا تأخّر، اللهمّ‏ إلّا أن يريد ما تقدم حكايته من قول الغلاة<[38]، ولعلّه ناظر إلى علماء الكلام ، وهم عادةً ما ينظرون إلى دليل اللطف وبيان وجه الحاجة إلى الإمامة.

وبعبارة جامعة: الحاجة إلى الإمامg كما تثبت في عالم التكوين، كذلك هي ثابتة بلحاظ عالم التشريع، وعادةً ما يقع الاحتجاج على الخصم من هذه الجهة الثانية الأقرب إلى الحسّ، فقد روي عن أمير المؤمنينg قوله: >فرض الله...الإمامة نظاماً للأمّة، والطّاعة تعظيماً للإمامة<[39]، وعن السيّدة الزهراءj قولها في خطبتها الفدكية عند بيان فضل أهل البيتi: >وطاعتنا نظاما للملّة، وإمامتنا لَمَّا للفرقة<[40]، وعن الإمام الرضاg في حديث طويل قوله: >إنّ الإمامة زمام الدّين ونظام المسلمين وصلاح الدُّنيا<[41]، والأخبار بهذا المعنى أيضاً لا يبعد دعوى تواترها، وإثبات شيء لا ينفي ما عداه إلّا أن يكون بينهما تنافٍ، أو كان أحدهما بلسان الحصر، ولا شيء منهما بثابت في المقام.

وما يقع في كتب علم الكلام هو ما يمكن الاحتجاج به على الغير، ومن الواضح أن الجنبة التكوينية أمر غيبي لا يمكن الاحتجاج به، بخلاف الحاجة إلى الإمام في انتظام شؤون الناس وكونهم أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية، فإنّه أمر حسّي قابل للاحتجاج به على الغير.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] كتاب العين، ج4، ص290، والمحيط، ج4، ص386.

[2] كتاب العين، ج4، ص290.

[3] معجم مقاييس اللغة، ج3، ص114.

[4] وهذا التعبير مضافاً إلى وروده في كتب العامّة، وارد في مصادرنا كقرب الإسناد، ص320.

[5] النهاية في غريب الحديث، ج2، ص416.

[6] تفسير العياشي، ج2، ص27، ومثله في تفسير القمي، ج1، ص240.

[7] الكافي، ج4، ص201 و202.

[8] الوافي، ج12، ص72.

[9] بصائر الدرجات، ج1، ص488.

[10] لاحظ على سبيل المثال: كتاب سليم بن قيس، ج2، ص840، وبصائر الدرجات، ج1، ص485 و486، والكافي، ج1، ص179، والإمامة والتبصرة من الحيرة ص29 و31، والغيبة للنعماني، ص138 و139، وكمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص230، وعلل الشرائع، ج1، ص197 و198.

[11] النبأ، 7.

[12] تاج العروس، ج5، ص291.

[13] كتاب العين، ج7، ص348.

[14] النازعات، 32.

[15] مفردات ألفاظ القرآن، ص354.

[16] كتاب العين، ج7، ص290.

[17] النحل، 15.

[18] الأنبياء، 31.

[19] لقمان، 10.

[20] مفردات ألفاظ القرآن، ص782.

[21] نهج البلاغة، ص247.

[22] الكهف، 47، المعارج، 9، الطور، 10، النبأ، 20، المزمل، 14، الواقعة، 5 و6، الحاقة، 14.

[23] كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص207، والأمالي للشيخ الصدوق، ص186.

[24] الكافي، ج1، ص179.

[25] الأصول الستة عشر، ص140، وقد روي هذا الحديث في الكافي، ج1، ص534 مع اختلاف لا يؤثر على موضع الشاهد هنا، وإن كان له أثر كبير في مجال آخر كما لا يخفى على متتبع.

[26] الأنفال، 33.

[27] علل الشرائع، ج1، ص123 و124.

[28] مرآة العقول، ج6، ص233.

[29] الكافي، ج1، ص179.

[30] المفردات، ص434.

[31] لسان العرب، ج8، ص169.

[32] الأعراف، 34.

[33] يونس، 45.

[34] يونس، 49.

[35] النحل، 61.

[36] شرح أصول الكافي، ج5، ص153.

[37] المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج20، ص18.

[38] الشافي في الإمامة، ج1، ص42.

[39]  نزهة الناظر و تنبيه الخاطر ، ص46 و47. وقد اعتمدنا على هذا المصدر لمكان ورود النصّ على جعل الإمامة نظاماً للأمة، وإلّا فالموجود في نقل نهج البلاغة، ص512 وغيره قولهg: >والأمانة نظاماً للأمّة، والطاعة تعظيماً للإمامة<.

[40]  السقيفة وفدك، ص139، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص568، وعلل الشرائع، ج1، ص247، ودلائل الإمامة، ص113، والاحتجاج، 1، ص99.

[41] الكافي، ج1، ص200، ورواه النعماني في الغيبة، ص218، والصدوق في الأمالي، ص676، وعيون أخبار الرضاg، ج1، ص218، وكمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص677، ومعاني الأخبار، ص97.

مشاركة: