"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن الحارث بن المغيرة، أو أبيه، عن أبي عبد اللهg قال: >قلت له: ما كان في وصية لقمان؟ قال: كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيه أن قال لابنه: خَف اللهa خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال أبو عبد اللهg: كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفةٍ ونور رجاءٍ، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم لم يزد على هذا<، انظر: الكافي، ج2، ص67، وقد روى الصدوق في الأمالي ص668، المجلس 95 بسند آخر ينتهي إلى حماد، مع اختلاف وزيادة في أوّله وآخره.
السؤال: هل أنّ نسبة العذاب لله تعالى لمن يأتيه ببرّ الثقلين تستلزم نسبة القبح إليه تعالى؟ فقد يُقال بأنّ معاقبة المُحسِن من القبيح، والله تعالى لا يفعله، فكيف يمكن أن يُجعل هذا الاحتمال في داخل العبد في حالة الخوف؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لا ينبغي الإشكال بناءً على مسلك أهل العدل بقبح تعذيب المُحسن بشرط الموافاة على الإيمان وعدم ارتكاب ما يوجب حبط الأعمال، وكذلك لا ينبغي الإشكال في أنّ ما يقطع بعدمه لا يحتمل وقوعه فيما لو كان القطع فعلياً.
هذا، والفقرة موضع السؤال -أعني قوله لقمان لولده: >خَفِ اللهa خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك<- ناظرة إلى أهمية الخوف في تقويم السلوك الإنساني، فمضافاً إلى أنّ الخوف يمنع من التمادي في المعاصي، فإنّ من أهمّ أدوار الخوف من الله تعالى عدم الوقوع في حالة المنّ والإدلال والعجب بالأعمال مما يوجب حبط الأعمال، نظير ما جاء في قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمنِّ والأذَى}[1].
هذا، وقد نُهينا عن استكثار عمل الخير كما في قوله تعالى: {ولاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[2]، فقد روي عن أبي عبد اللهg أنّه قال في بيان هذه الآية: >لا تستكثر ما عملت من خير لله<[3]، وقد جاء في دعاء «مكارم الأخلاق» في الصّحيفة الكاملة للإمام زين العابدينg في مقام طلب التحلّي بالخصال الممدوحة: «واستقلال الخير وإن كثُر من قولي وفعلي».
وعنهg: >أتى عالمٌ عابداً، فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته! وأنا أعبدُ الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتّى تجري دموعي، فقال له العالم: فإنّ ضحكك وأنت خائفٌ أفضل من بكائك وأنت مدلٌّ، إنّ المدلّ لا يصعد من عمله شيءٌ<[4]، حيث أكّد على أنّ الله تعالى لا يتقبّل عمل المدلّ، والإدلال العجب[5]، أو قل: الإدلال استعظام النفس وخصالها ورؤية حقّها عند الله تعالى[6].
وفي معتبرة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: >قلت لأبي عبد اللهg: الرجل يعمل العمل وهو خائفٌ مشفقٌ، ثمّ يعمل شيئاً من البرّ فيدخله شبه العجب به؟ فقال: هو في حاله الأولى وهو خائفٌ، أحسن حالًا منه في حال عجبه<[7].
بل ورد في معتبرة عليّ بن سويدٍ عن أبي الحسنg قال: >سألته عن العجب الذي يفسد العمل، فقال: العُجب درجاتٌ منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه، ويحسب أنّه يحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربّه، فيمنّ على اللهa، ولله عليه فيه المن<[8]، ونظرنا هنا إلى خصوص الدرجة الثانية من العجب حيث المنّ على الله تعالى بالعمل، وقد نصّ في هذا الحديث على كونه من المبطلات.
ولأجل هذه النصوص وما شاكلها، قال ابن فهد الحليS عند بيانه الفرق بين السرور بالطاعة والابتهاج بها، وبين العجب المبطل على أدنى تقدير للثواب: >العجب إنّما هو الابتهاج بالعمل الصالح والإدلال له واستعظامه وأن يرى نفسه به خارجاً من حد التقصير، وهذا مهلك لا محالة، ناقل للعمل من كفة الحسنات إلى كفة السيئات، ومن رفيع الدرجات إلى أسفل الدركات<[9].
وقد نقل هذا المعنى عن البهائيS، وأنّه قال: >لا ريب أنّ من عمل أعمالاً صالحة من صيام الأيام وقيام الليالي وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج، فإن كان من حيث كونها عطية من الله له ونعمة منه تعالى عليه وكان مع ذلك خائفاً من نقصها مشفقاً من زوالها، طالباً من الله الازدياد منها، لم يكن ذلك الابتهاج عجباً، وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه فاستعظمها وركن إليها ورأى نفسه خارجاً عن حدّ التقصير، وصار كأنّه يمنّ على الله سبحانه بسببها، فذلك هو العجب<[10].
إذا عرفت هذا، فالشخص الذي يجيء ببرّ الثقلين متكلاً عليها وأنّها المنجية له، عادةً ما يكون ناظراً لنفسه وكأنّه خارج عن حدّ التقصير[11]، فلا يؤمن عليه الابتلاء بالمنّ والإدلال والعجب وما شاكلها من المحبطات، والمؤمن الصالح لا بدّ أن يكون دائماً في حالة الخشية والخوف من عروض هذه الأوصاف وغيرها من المحبطات، وقد روي عن الإمام الهاديg قوله: >مَنْ أَمن مكر الله وأَلِيمَ أَخْذِهِ، تكبّر حتى يحُلَّ به قضاؤُه<[12]. قال الله تعالى: {أفَأمِنُوا مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلا القَوْمُ الخاسِرُونَ}[13].
والمتحصّل: أنّ قول لقمان: >خَف الله عز وجل خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك< لا يقصد منه الاتيان به مع كونه مقبولاً، بل القصد إلى أنّ المؤمن لا ينبغي له الاتكال على عمله، حذراً من الوقوع في العجب والمنّة والإدلال على الله تعالى، ومن يتّكل على عمله لا يؤمن أن تحبط أعماله.
وقد ورد في بعض أدعية الصحيفة السجادية، قولهg: >واحملني بكرمك على التّفضّل، ولا تحملني بعدلك على الاستحقاق<[14]، وفي دعاء أبي حمزة الثمالي: >لسنا نتّكل في النّجاة من عقابك على أعمالنا، بل بفضلك علينا<[15].
[5] كما نبّه عليه التقي المجلسي في روضة المتقين، ج12، ص125، لكن قال ولده العلامة في مرآة العقول، ج10، ص223 و224: >والإدلال وراء العجب، فلا مدلّ إلّا وهو معجب، وربّ معجب لا يدلّ؛ إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة، دون توقع جزاء عليه، والإدلال لا يتمّ إلّا مع توقع جزاء، فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب كان مدلاً بعمله، فإنّه لا يتعجب من ردّ دعاء الفساق ويتعجب من ردّ دعاء نفسه لذلك، فهذا هو العجب، والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه<.
[11] عقد الحرّ العامليS في الوسائل، ج1، ص95 باب تحت عنوان: >استحباب الاعتراف بالتقصير في العبادة<، ذكر فيه جملة من الأخبار التي تنهى عن استكثار العمل ودعوى الخروج عن حدّ التقصير، فلتلاحظ.
[12] تحف العقول، ص483.
[15] إقبال الأعمال، ج1، ص160.