"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
ما معنى ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: (فإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا والنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا)؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ما نقل في السؤال عبارة مأخوذة من كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) أرسله إلى معاوية بن أبي سفيان جواباً على رسالة كان قد أرسلها معاوية، وقد ورد في نقل آخر عن الإمام المهدي (عليه السلام) قوله في جواب بعض الكتب: (نحن صنائع ربِّنا والخلق بعدُ صنائعنا)[1]، والفرق بين النقلين (اللام) ففي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام): (صنائع لنا)، وفي المأثور عن الإمام المهدي (عليه السلام): (صنائعنا)، مضافاً إلى أنّ العبارة الواردة في المأثور عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ورد فيها كلمة (الناس)، بخلاف ما يؤثر عن الإمام المهدي (عليه السلام) من التعبير بـ(الخلق)[2].
ونحن وإن كنّا نعتقد أنّ المعنى فيهما واحد -كما سوف نوضحه إن شاء الله تعالى- إلّا أنّ هناك بعض الاحتمالات التي أُبرزت من قبل بعض الأعلام كأنّها لا تتلاءم إلّا مع ما هو منقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو موضوع السؤال، ولذا سوف نركّز في مقام الجواب على المتن المأثور عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبه يتضح -إن شاء الله- معنى ما يؤثر عن الإمام المهدي (عليه السلام).
ثم إنّ البحث واقع في ضمن نقاط: فنبحث أوّلاً عن المعنى والجذر اللغوي لهذه الكلمة، ثم ننقل بعضاً من كلمات العلماء في توضيح هذا المضمون، وبعد ذلك نبحث عمّا هو ظاهر الحديث بلحاظ اللغة والقرائن السياقيّة.
الأولى: في بيان معنى (صنائع) لغةً واستعمالاً
(الصنائع) جمع (صنيعة)[3]، ومادة (صنع) أصل صحيح يدلّ على عمل الشيء[4]، وفي المفردات أنّها إجادة الفعل، قال: (وليس كلّ فعل صنعاً، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب إليها الفعل)[5] ولم يتضح وجه هذا التخصيص بعد النظر إلى مجموع الاستعمالات كما سوف تعرف إن شاء الله تعالى، ومن هنا اشتقت كلمة (صنيعة)، وهي: ما اصطنعت من خير إلى غيرك، يقال: (فلان صنيعتي أي اصطنعته وخرَّجته)[6]، وفي لسان العرب: (فلان صنيعة فلان وصنيع فلان إذا أدّبه وخرّجه وربّاه)[7].
هذا من حيث اللغة، ولم يخرج الاستعمال القرآني عنه، فقد استعملت هذه المادّة عشرين مرّة في القرآن في تسع عشرة آية حيث تكررت مرّتين في إحداها، وغالباً ما تستعمل في الحكاية عن فعل البشر، وذلك في خمس عشرة مورداً هي قوله تعالى: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[8]، و﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[9]، و﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾[10]، و﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[11]، و﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾[12]، و﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾[13]، و﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ﴾[14]، و﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[15]، و﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[16]، و﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾[17]، و﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ﴾[18]، و﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[19]، و﴿وَالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾[20]، و﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[21]، كما أنّها أتت مفعولاً في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾[22]، واسم مكان كما في قوله تعالى: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾[23].
وقد استعملت في الإشارة إلى خلق الله تعالى أو تدبيره كما في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾، وفي الإشارة إلى المبالغة في إصلاح الشيء كما في قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾[24] و﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾[25].
وعلى هذا المنوال من المعنى جاء الاستعمال في الأخبار، أمّا بلحاظ ما هو منسوب إلى البشر فمشهور، وتستعمل إشارة إلى خلق الله تعالى كما في قوله (عليه السلام): (والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء)[26] وبنقل آخر: (والله لا من شيء صنع ما خلق)[27]، وفي قوله (عليه السلام): (وجدت علم الناس كلّه في أربع: أوّلها أن تعرف ربّك، والثاني أن تعرف ما صنع بك...)[28] لا يقصد من (صنع) إلّا الإشارة إلى ألطاف الله تعالى وتدبيره[29].
واستعملت كلمة الاصطناع في الإشارة إلى المبالغة في الاهتمام بالشيء كما في الوصيّة إلى الإمام الباقر (عليه السلام)، وفيه: (ففتح الخامس كتاباً فوجد فيها أنْ فسّر كتاب الله تعالى، وصدِّق آبائك، وورِّث ابنك واصطنع الأمّة، وقم بحقّ الله عزّ وجلّ، وقل الحقّ في الخوف والأمن ولا تخش إلّا الله)[30]. وقد بيّن ذلك جملة من المحشين، فقالوا في بيان معنى (اصطنع الأمّة) أي ربّهم تربيّة وأحسن إليهم إحساناً وأخرجهم من الجهل إلى العلم ومن الظلمة إلى النور، من اصطنعته أي ربيّته وخرّجته[31]. هذا كلّه من حيث اللغة والاستعمال.
ثانياً: في عرض أهمّ ما جاء في كلمات العلماء
قد تعرّض غير واحد من الفقهاء وشرّاح الحديث لبيان المقصود من تلك العبارة، وسوف ننقل جملة من العبائر بما تعبّر عن اختلاف في فهم المقصود:
البيان الأوّل: ما ذكره جملة من شرّاح الحديث من أنّ المقصود من هذه العبارة الإشارة إلى أنّه ليس لأحدٍ من الناس فضل عليهم، وفضلهم هو المنتشر بين الناس.
قال العلامة المجلسي (رحمه الله) الذي قال: (قوله (عليه السلام): (فإنّا صنائع ربنا...) هذا كلام مشتمل على أسرار عجيبة من غرائب شأنهم التي تعجز عنها العقول، ولنتكلّم على ما يمكننا إظهاره والخوض فيه فنقول صنيعة الملك من يصطنعه ويرفع قدره... فالمعنى أنّه ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه. ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس نصطنعه ونرفع قدره.
وقال ابن أبي الحديد: هذا مقام جليل ظاهره ما سمعت[32]، وباطنه أنّهم عبيد الله والناس عبيدهم.
و قال ابن ميثم: لفظ الصنائع في الموضعين مجاز من قبيل إطلاق اسم المقبول على القابل، والحال على المحلّ، يقال: فلان صنيعة فلان إذا اختصّه لموضع نعمته، والنعمة الجزيلة التي اختصهم الله بها هي نعمة الرسالة وما يستلزمه من الشرف والفضل حتى كان الناس عيالاتهم فيها)[33]، وقد ذكر ما يقرب من هذا المعنى في منهاج البراعة[34].
وأيضاً هذا المعنى هو الظاهر من بعض بيانات المازندراني في شرحه على الكافي، حيث جعل هذه العبارة دليلاً على أنّ الله تعالى كرّمهم (عليهم السلام) بالمقامات العاليّة الشريفة، وجعلهم هداة الأرواح في عالم الطبائع البشريّة[35]، وأيضاً من عبائر الشيخ المنتظري (رحمه الله) الذي قال تعليقاً على هذا الحديث: (فلا يُراد به الخلقة، بل الهداية والتربية، ولذا ذكر الناس فقط لا جميع الخلق، ومنه قولهم: المرأة صنيعة الرجل أي مربّاته)[36].
البيان الثاني: أنّ المقصود من العبارة الإشارة إلى أنّهم (عليهم السلام) أسوة للناس، وهو ما يفهم من قول الميرزا القمي (رحمه الله): (الصنائع جمع صنيعة أي الحسنة، يعني من حسنات ربّنا، والمحبوّين بأصناف كرامتنا... والناس بعدُ صنائع لنا محبوّون بأصناف كرامتنا؛ لاقتفائهم إيّانا في الأخلاق الحسنة والأعمال المستحسنة)[37].
البيان الثالث: ما جاء في هامش فقه الشيعة للسيّد الخلخالي تقريراً لبحث السيد الخوئي (رحمه الله) حيث حمل اللام في قوله (عليهم السلام): (والناس بعد صنائع لنا) على التعليل، قال: (ظاهر في التعليل، فيكون المعنى أنّ الناس خلقوا لأجلنا)[38] ثم ذكر احتمالاً آخر قد يرجع إلى البيان الأوّل أو الثاني.
البيان الرابع: أنّه إشارة إلى عالم الطاعة، ذكر الميرزا جواد التبريزي(رحمه الله)، قال: (أي نحن مطيعون لِمَا أمر الله سبحانه حيث إنّ الصانع لشخص أي الخادم له يطيعه، والناس يجب عليهم إطاعتنا حيث إنّ للأئمة (عليهم السلام) الولاية على الناس فيما يأمرون وينهون عنه...)[39]، وظاهره أنّه جعل (صنائع) جمع صانع.
البيان الخامس: ما جاء في كلمات السيّد الحائري (حفظه الله) فقال: (الصنائع جمع صانع، وهو بمعنى العامل والتلميذ، كما يُقال عن الذي يعملون تحت يد البنّاء: إنّهم صنّاعه، فالمعنى أنّنا نعمل تحت يد الله سبحانه وبإرشاده، والناس يعملون تحت يدنا وإرشادنا) [40]، وهذا كسابقه قد جعل (صنائع) جمع (صانع) وإن كانت النتيجة مختلفة.
البيان السادس: أنّها محمولة على معنى الخلق والإيجاد، بدعوى أنّ المقصود أنّ الله تعالى خلقهم وهم خلقوا الناس، وهو ما يفهم من الشعراني في حاشيته على شرح أصول الكافي للمازندراني حيث كان في مقام الحديث عن قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد) وأنّها قاعدة صحيحة على مذاقه الفلسفي، ثم قال: (ومع ذلك: إنّها عبارة يشمئز منها الطبع، ولو قيل: إنّه خلق أشرف الموجودات أوّلاً، وخلق غيره بعده لم يشمئز، كما ورد خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها، وفي نهج البلاغة: نحن صنائع الله والناس بعدُ صنائع لنا، وهذا من جهة المعنى نظير قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد، ولكن أداة النفي تهيّج السذّج)[41].
ثالثاً: في بيان المقصود من الحديث
بعيداً عن النقاش التفصيلي في البيانات التي ذكرناها آنفاً، فإنّ الراجح من المعاني خصوص الأوّل، وأنّ القصد الإشارة إلى تفضلّهم على الناس، وأنّه ليس لأحد من الناس له عليهم نعمة تجزى؛ فإنّك قد عرفت أنّ (صنائع) جمع (صنيعة)، والصنيعة هي المعروف وما يتفضّل به على الغير، والمعنى يفهم من طريق المقابلة، فإنّه (عليه السلام) قد قال أوّلاً: (نحن صنائع ربّنا)، فهم صلوات الله تعالى صنيعة الله تعالى وموضع تفضّله ولطفه المباشر من دون واسطة أحد، ثم قال: (والناس بعدُ صنائع لنا)؛ فإنّ مقتضى المقابلة أن تكون (اللام) في (لنا) لام تعدية، فكأنّه قيل: (صنائعنا) وهو الموافق للمأثور عن الإمام المهدي (عليه السلام).
وعليه، يكون المعنى أنّ فضلنا على الناس، وليس لأحد علينا فضل، فمعروفنا عامّ يستفيد منه القاصي والداني، وليس لأحد من الناس معروف علينا، ويكون قوله هذا جارياً مجرى قوله (عليه السلام): (لا يُقاس بآل محمد (صلّى الله عليه وآله) من هذه الأمّة أحد، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتُهُم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين...)[42]، هذا المعنى له عامّ عميق يشار إليه بمثل قولهم (عليهم السلام): (إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم)[43]، وله مصاديق ظاهرة، قد اقتصر في الحديث على بيانها مراعاةً لطبيعة المخاطب كما نؤكّده إن شاء الله تعالى.
ولنا على هذا ثلاث قرائن:
الأولى: ما عرفته من المعنى اللغوي، فإنّ صنائع جمع صنيعة، والصنيعة ما اصطنع من الخير إلى الغير، وهو المتبادر من الاستعمالات في الأخبار كما في قول الإمام الصادق (عليه السلام): (الْمَنُّ يَهْدِمُ الصَّنِيعَةَ)[44]، وقوله وقد ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد وُلّي ولايةً: (كَيْفَ صَنِيعَتُهُ إِلَى إِخْوَانِهِ)، فذكر له أنّه ليس عنده خير، فقال: (أُفٍّ يَدْخُلُونَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ ولَا يَصْنَعُونَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ خَيْراً)[45]، و(لَا تَصْلُحُ الصَّنِيعَةُ إِلَّا عِنْدَ ذِي حَسَبٍ أَوْ دِينٍ)[46].
الثانية: سياق الحديث، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل: (إنّا صنائع ربّنا...) كما يتوهم كثير، بل قال (عليه السلام): (فإنّا صنائع ربّنا...)، والفاء هنا للتعليل كما يعرفه كلّ من طالع الكتاب، وإليك نصّه الفقرة، فقد جاء في كتابه (عليه السلام): (ولولا ما نهى الله عنهُ مِن تزكِيةِ المرءِ نفسهُ لذكر ذاكِرٌ فضائِل جمّةً، تعرِفُها قُلُوبُ المُؤمِنِين ولا تمُجُّها آذانُ السّامِعِين، فدع عنك من مالت بِهِ الرّمِيّةُ؛ فإِنّا صنائِعُ ربِّنا والنّاسُ بعدُ صنائِعُ لنا، لم يمنعنا قدِيمُ عِزِّنا ولا عادِيُّ طولِنا على قومِك أن خلطناكُم بِأنفُسِنا فنكحنا وأنكحنا فِعل الأكفاءِ، ولستُم هُناك وأنّى يكُونُ ذلِك: ومِنّا النّبِيُّ ومِنكُمُ المُكذِّبُ، ومِنّا أسدُ الله ومِنكُم أسدُ الأحلافِ[47]، ومِنّا سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ ومِنكُم صِبيةُ النّارِ[48]، ومِنّا خيرُ نِساءِ العالمِين ومِنكُم حمّالةُ الحطبِ...) [49].
فقوله (عليه السلام): (فإنّا صنائع ربّنا) جاء لبيان الوجه في لزوم أن يترك معاوية كلام (من مالت به الرميّة) وفي نقل آخر: (الدنية)[50]، وهي على كلّ حال إشارة إلى خسيس يتكلّم عنه (عليه السلام) بسوء عند معاوية، وقد نقل ذلك الكلام في شرح ابن أبي الحديد[51].
وعليه، فالحديث في مقام بيان فضلهم ومعروفهم على الناس ودفع ما اتهموا به على لسان فلان وفلان، وقد فسّر فضلهم على الناس بما عرفت من قديم عزّهم (صلوات الله عليهم).
وهذا السياق المذكور متقاربٌ مع السياق الذي جاء في الحديث عن الإمام المهدي (عليه السلام)، وإليك تمام النصّ، فقد جاء عن عثمان بن سعيد العمري (رضوان الله عليه)[52] قوله: (تشاجر ابن أبي غانمٍ القزوينيّ وجماعةٌ من الشّيعة في الخلف، فذكر ابن أبي غانمٍ أنّ أبا محمّدٍ (عليه السلام) مضى ولا خلف له، ثمّ إنّهم كتبوا في ذلك كتاباً وأنفذوه إلى النّاحية وأعلموه بما تشاجروا فيه، فورد جواب كتابهم بخطّه (عليه وعلى آبائه السّلام): بسم الله الرّحمن الرّحيم. عافانا الله وإيّاكم من الضّلالة والفتن ووهب لنا ولكم روح اليقين وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلب، إنّه أنهي إليّ ارتياب جماعةٍ منكم في الدّين وما دخلهم من الشّكّ والحيرة في ولاة أمورهم، فغمّنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا؛ لأنّ الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره، والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا، ونحن صنائع ربّنا والخلق بعد صنائعنا...)، وكما ترى فالسياق سياق بيان عدم حاجتهم لغيرهم، وأنّ لهم المنّة على الناس، فلا يوحشهم من قعد عنهم، بل لهم الفضل على الناس.
الثالثة: أنّ المخاطب في هذه الرسالة معاوية، فهل يحتمل أن يخاطبه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) -مثلاً- بأنّ الناس صنائع لنا بمعنى أنّنا أرباب خلقناهم؟! بل هذه قرينة على عدم احتمال أن يكون المقصود من الرواية شيئاً من دعاوى العليّة والخلق، وإلّا -وكما قال الشيخ الأراكي (ت1415هـ)-: (لكان ذلك لمعاوية باب وسيعاً لغرضه، فكان يهمّ بنشر هذا في الأصقاع، وأنّه (عليه السلام) مدّع للربوبيّة)[53].
وأمّا تفسير الحديث بما يرجع إلى الأسوة فلم يظهر من سياق الحديث كما عرفت مع أنّ فيه تخصيصاً للناس بخصوص من اقتضى بهم، وهو غير ظاهر من الحديث.
وجعل اللام لام تعليل لم يتضح من جهة المقابلة ولا قرينة السياق، مع ما عرفت من النصّ المنقول عن الإمام المهدي (عليه السلام).
وأمّا البيانان الرابع والخامس فيرد عليهما مضافاً إلى ما سبق أنّه لم يتضح كون (صنائع) جمع (صانع) بل هو جمع (صنيعة).
وأمّا البيان السادس فلا شاهد عليه، وقد عرفت ما هو مقتضى السياق، وكون المخاطب هو معاوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الغيبة (الطوسي)، ص285، والاحتجاج، ج2، ص467.
[2] وفي البين نقل ثالث كما في مشارق أنوار اليقين، ص60 و61، ونصّه مرسلاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أوّل ما خلق اللّه نوري، ثم فتق منه نور علي، فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم خلق الخلائق من نورنا فنحن صنائع اللّه، والخلق من بعد صنائع لنا أي مصنوعين لأجلنا)، وهذا الكتاب غير معتمد فيما ينفرد فيه من مضامين، والعبرة بما هو مثبت في تلك الكتب المعتبرة، ولذا قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في مقدّمة بحار الأنوار عند تعداده الكتب التي نقل منها، ج1، ص10: (وكتاب مشارق الأنوار وكتاب الألفين للحافظ رجب البرسيّ، ولا أعتمد على ما يتفرّد بنقله لاشتمال كتابيه على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع، وإنّما أخرجنا منهما ما يوافق الأخبار المأخوذة من الأصول المعتبرة)، وقد نصّ على هذا المعنى في كلمات الحرّ العاملي فأشار إلى أنّ (في كتابه إفراط وربّما نسب إلى الغلو) كما في أمل الآمل _ تذكرة المتبحرين في العلماء المتأخرين، ج2، ص117.
[6] كتاب العين، ج1، ص305، وقريب منه ما في الصحاح، ج3، ص1246، ومعجم مقاييس اللغة، ج3، ص313، والمفردات، ص493، وشمس العلوم، ج6، ص3835، وغيرها من كتب اللغة.
[32] أي أنّ ابن أبي الحديد في شرحه على النهج قد ذكر ذلك المعنى الذي أشار إليه العلامة المجلسي (رحمه الله)، لا أنّه قال: (ظاهره ما سمعت)، والعبارة كما في شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد)، ج15، ص194: (هذا كلام عظيم عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره. يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت، وباطنه أنّهم عبيد الله وأنّ الناس عبيدهم).
[47] يعني (عليه السلام): (عتبة بن ربيعة) وصف به نفسه في معركة بدر، وقد قتله (أسد الله حمزة)، انظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج19، ص126 و127.
[48] أشار (عليه السلام) إلى ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعقبة بن أبي معيط حين قتله صبراً يوم بدر، وقد قال كالمستعطف له (صلى الله عليه وآله): من للصبية يا محمد؟! قال (صلّى الله عليه وآله): (النار).
[52] التنصيص على كون الراوي هو العمري مذكور في خصوص الاحتجاج، والموجود في الغيبة (الشيخ الموثوق به بمدينة السلام)، ومدينة السلام بغداد موطن السفراء، سميت بذلك؛ لقربها من نهر السلام. انظر: تاج العروس، ج16، ص355.
[53] كتاب البيع (الأراكي)، ج2، ص16.