

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
السؤال: نرى الكثير من العلماء قد أكّدوا على أذكار تقال لمدة ٤٠ يوماً، فهل لهذه الأربعينيّة مصدر في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أم أنّ أصلها هو فقط طرق الصوفية؟
مثلاً: نقل العلامة المجلسي الأوّل في كتابه «روضة المتقين، ج١٣، ص١٢٧»: (والمداومة على ما ذكر أربعين يوماً تصير سبباً لأن يفتح الله تعالى على قلبه أنوار حكمته ومعرفته ومحبته، ثمَّ يترقى إلى مقام الفناء في الله والبقاء بالله كما تقدّم الأخبار المتواترة في ذلك).
بسم الله الرحمن الرحيم
بعيداً عن بعض المصطلحات التي ذكرت في كلمات الشيخ محمد تقي المجلسي (رحمه الله)، سوف نحاول في الجواب التركيز على موضوع السؤال وهو حول وجود خاصيّة للأربعينيات، فنقول: تارةً نتكلّم عن أصل الاعتداد برقم (الأربعين) وأخرى نتكلّم عن نوعيّة العمل الموصى به في تلك المدّة، فأمّا بالنسبة لأصل خصوصيّة رقم (الأربعين)؛ فإنّ الأرقام بشكل عامّ قد تذكر لبيان خصوصيّة في الرقم وأخرى قد تذكر لبيان مطلق الكثرة.
ورقم الأربعين من هذا القبيل، حيث ورد في الأخبار وقصد منها بيان الكثرة كما يستظهر من مثل ما جاء عن أبي جعفر عليه السّلام: (مَنْ حَمَلَ جَنَازَةً مِنْ أرْبَعِ جَوَانِبِها غَفَرَ اللهُ لَهُ أرْبَعِيْنَ كَبِيْرَةً)[1] بشهادة مناسبات الحكم الموضوع من جهة، وما جاء في خبر آخر عن أبي عبد الله عليه السّلام من قوله في حديث: (وَمَنْ رَبَّعَ خَرَجَ مِنْ الذُنُوبِ)[2].
كما أنّه قد ورد في الأخبار ما يظهر منه وجود خصوصيّة لهذا الرقم سواء بلحاظ تعبّد خاصّ مرتبط ببعض الفروع كما في باب الزكاة وأنّه في كلّ أربعين درهماً درهماً[3]، أم بلحاظ حالات وأطوار الإنسان وبعض الآثار، وهذا ما يهمّنا الحديث عنه هنا، وسوف نبيّن المسألة بعون الله تعالى ضمن نقاط:
أوّلاً: قد ورد في جملة من النصوص ربط خلق الإنسان وأطواره برقم الأربعين، سواء:
بلحاظ الطينة كما في قوله عليه السّلام: (أنَّ الله قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ التُّرْبَةِ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَصَبَّ عَلَيْهَا الماءَ الْعَذْبَ الْفُرَاتَ، ثُمَّ تَرَكَهَا أرْبَعِينَ صَبَاحاً، ثُمَ صَبَّ عَلَيْهَا الماءَ المالِحَ الْأُجَاجَ، فَتَرَكَهَا أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَلَمَّا اخْتَمَرَتِ الطِّينَةُ أخَذَهَا)[4]، الحديث؛ فقد ورد في هذا الحديث أنّ اختمار الطينة بالماء العذب _ وهي كناية عن جنبة الخير والتقوى _ وبالماء الماح الأجاج _ وهي كناية عن جنبة الشرّ والفجور _ احتاج إلى أربعين يوماً.
أم بلحاظ خلقة الإنسان كما في الأخبار الكثيرة نذكر منها ما جاء في رواية الحسن بن الجهم عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: (قَالَ أبو جَعْفَرٍ عليه السّلام: إنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَصِيرُ عَلَقَةً أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَصِيرُ مُضْغَةً أرْبَعِينَ يَوْماً)[5]، بل قد ورد هذا المعنى عند الحديث عن خلق الإمام، فقد ورد عن أبي عبد الله عليه السّلام: (إنَّ الله _ تَبَارَكَ وتَعَالى _ إذَا أحَبَّ أنْ يَخْلُقَ الإمَامَ، أمَرَ مَلَكاً، فَأخَذَ شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ تَحْتَ العَرْشِ، فَيَسْقِيهَا أبَاهُ، فَمِنْ ذلِكَ يَخْلُقُ الإمَامَ، فَيَمْكُثُ أرْبَعِينَ يَوْماً ولَيْلَةً فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَايَسْمَعُ الصَّوْتَ، ثُمَّ يَسْمَعُ بَعْدَ ذلِكَ الْكَلَامَ)[6]، الحديث.
ثانياً: قد أشير في جملة من النصوص إلى ارتباط جملة من الأخلاق بهذا الرقم، فقد ورد عن أبي عبد الله عليه السّلام قوله: (إذَا أُغِيرَ الرَّجُلُ فِي أهْلِهِ، أوْ بَعْضِ مَنَاكِحِهِ مِنْ مَمْلُوكِهِ، فَلَمْ يَغَرْ، ولَمْ يُغَيِّرْ، بَعَثَ اللهُ إلَيْهِ طَائِراً يُقَالُ لَهُ: القَفَنْدَرُ حَتّى يَسْقُطَ عَلى عَارِضَةِ بَابِهِ، ثُمَّ يُمْهِلَهُ أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَهْتِفَ بِهِ: إنَّ اللهَ غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ، فَإنْ هُوَ غَارَ وغَيَّرَ، وأنْكَرَ ذلِكَ فَأنْكَرَهُ، وإلَّا طَارَ حَتّى يَسْقُطَ عَلى رَأْسِهِ، فَيَخْفِقَ بِجَنَاحَيْهِ عَلى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ يَطِيرَ عَنْهُ، فَيَنْزِعُ الله مِنْهُ بَعْدَ ذلِكَ رُوحَ الإيمَانِ، وتُسَمِّيهِ الملَائِكَةُ الدَّيُّوثَ)[7] فالانطباع بملكة (الديّوث) إنّما هو بعد مرور أربعين يوماً.
وقد رُبط هذا المعنى في بعض الأخبار بضرب المعازيف في البيت، فعن أبي عبد الله عليه السّلام أنّه قال: (إنَّ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: الْقَفَنْدَرُ، إذَا ضُرِبَ فِي مَنْزِلِ الرَّجُلِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالْبَرْبَطِ، ودَخَلَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَضَعَ ذلِكَ الشَّيْطَانُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ عَلى مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً، فَلَا يَغَارُ بَعْدَ هذَا حَتّى تُؤْتى نِسَاؤُهُ، فَلَا يَغَارُ)[8].
وقد ورد أيضاً ما يناظر هذا المعنى بلحاظ ترك أكل اللحم أربعين يوماً، فقد روي عن أبي عبد الله عليه السّلام قوله: (اللَّحْمُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ، ومَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ أرْبَعِينَ يَوْماً سَاءَ خُلُقُهُ، ومَنْ سَاءَ خُلُقُهُ فَأذِّنُوا فِي أُذُنِهِ)[9].
وورد ما يناظره بلحاظ شارب المسكر، فعن أبي عبد الله عليه السّلام قوله: (مَنْ شَرِبَ مُسْكِراً انْحَبَسَتْ صَلَاتُهُ أرْبَعِينَ يَوْماً، وإنْ مَاتَ فِي الْأرْبَعِينَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً؛ فَإنْ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)[10].
كما روي عن أبي عبد الله عليه السّلام: (قَالَ رَسُولُ الله e: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يَتْرُكْ عَانَتَهُ فَوْقَ أرْبَعِينَ يَوْماً، ولَا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تَدَعَ ذلِكَ مِنْهَا فَوْقَ عِشْرِينَ يَوْماً)[11].
هذا من ناحية الصفات السيئة، وأمّا من ناحية الصفات الحسنة فقد روي عن أبي عبد الله عليه السّلام قوله: (مَنْ أكَلَ رُمَّانَةً عَلَى الرِّيقِ أنَارَتْ قَلْبَهُ أرْبَعِينَ يَوْماً)[12]، وعنه عليه السّلام: (مَنْ أكَلَ سَفَرْجَلَةً أنْطَقَ اللهُ الحِكْمَةَ عَلى لِسَانِهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً)[13].
وأيضاً ورد هذا المعنى فيما يرتبط بالإخلاص وأثره على جوارح الإنسان، فقد روي عن أبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: (مَا أخْلَصَ عَبْدٌ الْإيمَانَ بِالله أرْبَعِينَ يَوْماً _ أوْ قَالَ: مَا أجْمَلَ عَبْدٌ ذِكْرَ اللهَ أرْبَعِينَ يَوْماً إلَّا زَهَّدَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا، وبَصَّرَهُ دَاءَهَا ودَوَاءَهَا، وأثْبَتَ الحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وأنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ)[14].
وهذه المعاني كما وردت بلحاظ الإنسان وردت بلحاظ الأرض، فقد ورد عن أبي جعفر عليه السّلام قوله: (حَدٌّ يُقَامُ فِي الْأرْضِ أزْكى فِيهَا مِنْ مَطَرِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً وأيَّامَهَا)[15]، فكأنّ للمطر أربعين يوماً خصوصيّة، فأريد بيان أنّ إقامة الحدود ذو أثر أعظم، ولاحظ أيضاً ما روي من أنّ الأرض تنجس من بول الأغلف أربعين صباحاً[16].
ثالثاً: كنّا قد أشرنا في النقطة الأولى إلى ارتباط خلقة الإنسان برقم الأربعين _ أعني أربعين يوماً _ وفي النقطة الثانية تصريح النصوص بارتباط أثر جملةٍ من الأفعال بهذا الرقم، ممّا يعطي إشارة بوجود ترابط تكوينيّ بين المداومة على فعل من الأفعال أربعين يوماً وبين وصول الإنسان إلى مقام أو دركة خاصّة، فيكشف الربط بين هذه الأخبار عن وجود رابط تكوينيّ جعل الله تعالى بحيث يحتاج إلى مثل هذه المداومة لتحصيل أثر من الآثار.
ويرشد إلى هذا المعنى بوضوح ما جاء في معتبرة الحسين بن خالد قال: (قلت لأبي الحسن عليه السّلام: إنَّا رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ e أنَّهُ قَالَ: مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لَمْ تُحْتَسَبْ لَهُ صَلَاتُهُ أرْبَعِينَ يَوْماً. قَالَ: فَقَالَ: صَدَقُوا، قُلْتُ: وَكَيْفَ لَا تُحْتَسَبُ صَلَاتُهُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً لَا أقَلَّ مِنْ ذلِكَ وَلَا أكْثَرَ؟ فَقَالَ: إنَّ اللهَ قَدَّرَ خَلْقَ الإنْسَانِ، فَصَيَّرَهُ نُطْفَةً أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ نَقَلَهَا فَصَيَّرَهَا عَلَقَةً أرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ نَقَلَهَا فَصَيَّرَهَا مُضْغَةً أرْبَعِينَ يَوْماً، فَهُوَ إذَا شَرِبَ الخمْرَ بَقِيَتْ فِي مُشَاشِهِ أرْبَعِينَ يَوْماً عَلى قَدْرِ انْتِقَالِ خِلْقَتِهِ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: وَكَذلِكَ جَمِيعُ غِذَائِهِ أكْلِهِ وَشُرْبِهِ يَبْقى فِي مُشَاشِهِ أرْبَعِينَ يَوْماً)[17]، والمشاشة هي أصله، فدلّ الخبر على وجود ارتباط بين أطوار الخلقة المرتبة على الأربعين وبين أثر الخمر في البدن.
وقد ورد هذا التعليل أيضاً في ربط مسألة الانتهاء عن أكل اللحم، فقد روي عن الحسين بن خالد أيضاً قال: (قلتُ لأبِي الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّ النَّاسَ يَقُوْلُونَ: إنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ اللَّحْمَ ثَلاثَةَ أيَامٍ سَاءَ خُلُقُهُ، فَقَالَ: كَذَبُوا، وَلَكِن مَنْ لَمْ يَأْكُلْ اللَّحَمَ أرْبَعِيْنَ يَوْماً تغيّر خلقه؛ وَذَلِكَ لِانْتِقَالِ النُّطْفَةِ فِي مِقْدَارِ أرْبَعِيْنَ يَوْماً)[18].
ومن هنا قال العلامة المجلسي (رحمه الله) تعليقاً على بعض هذه الأخبار: (ولعلّ خصوص الأربعين؛ لأنّ الله تعالى جعل انتقال الإنسان في أصل الخلقة من حال إلى حال في أربعين يوماً كالانتقال من النطفة إلى العلقة ومن العلقة إلى المضغة، ومن المضغة إلى العظام ومنها إلى اكتساء اللحم، ولذا يوقف قبول توبة شارب الخمر إلى أربعين يوما كما ورد في الخبر)[19]، وقد أشير إلى هذا المعنى في كلمات الفيض الكاشاني والمازندرانيّ[20].
وقد يشعر بهذا المعنى التعبير بالإتمام في قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 142] فكأنّ بالأربعين إتمام الأمر.
رابعاً: مما تقدّم يمكن أن نوجّه جملة من النصوص التي تؤكّد على رقم الأربعين في مواطن مختلفة كأخبار ابتلاء المؤمن في كلّ أربعين يوماً، حيث جاء في رواية محمد بن مسلم قال: (سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: المُؤْمِنُ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ أرْبَعُونَ لَيْلَةً إلَّا عَرَضَ لَهُ أمْرٌ يَحْزُنُهُ، يُذَكَّرُ بِهِ)[21]، فكأنّ الغفلة مدّة أربعين يوماً مؤثّر في كمال إيمانه، فيحتاج إلى ما يذكَّر به من البلاء حفظاً لدينه.
وأيضاً يمكن أن نوجّه ما ورد من حكاية لسنن الماضين من الاستجابة بعد الإلحاح أربعين يوماً، فقد روى مُحَمَّد بن مُسْلِمٍ، عَنْ أحَدِهِمَا h، قَالَ: (قُلْتُ: إنَّا لَنَرَى الرَّجُلَ لَهُ عِبَادَةٌ واجْتِهَادٌ وخُشُوعٌ ولَا يَقُولُ بِالحقِّ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذلِكَ شَيْئاً؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّمَا مَثَلُ أهْلِ الْبَيْتِ i مَثَلُ أهْلِ بَيْتٍ كَانُوا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، كَانَ لَايَجْتَهِدُ أحَدٌ مِنْهُمْ أرْبَعِينَ لَيْلَةً إلَّا دَعَا فَأُجِيبَ؛ وإنَ رَجُلًا مِنْهُمُ اجْتَهَدَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ دَعَا، فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ، فَأتى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَشْكُو إلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ، ويَسْألُهُ الدُّعَاءَ. قَالَ: فَتَطَهَّرَ عِيسى وصَلَّى، ثُمَ دَعَا الله فَأوْحَى الله إلَيْهِ: يَا عِيسى، إنَّ عَبْدِي أتَانِي مِنْ غَيْرِ البَابِ الَّذِي أُوتى مِنْهُ، إنَّهُ دَعَانِي وفِي قَلْبِهِ شَكٌّ مِنْكَ، فَلَوْ دَعَانِي حَتّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ، وتَنْتَثِرَ أنَامِلُهُ، مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ)[22].
أو كالذي روي عَنْ أبِي عَبْدِ الله عليه السّلام: أنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عليه السّلام قَالَ: (أوْحَى الله إلى دَاوُدَ عليه السّلام: إنَّكَ نِعْمَ الْعَبْدُ لَوْلَا أنّكَ تَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، ولَا تَعْمَلُ بِيَدِكَ شَيْئاً. قَالَ: فَبَكى دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَأوْحَى الله إلَى الحَدِيدِ: أنْ لِنْ لِعَبْدِي دَاوُدَ، فَألَانَ الله لَهُ الحَدِيدَ، فَكَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعاً، فيَبِيعُهَا بِألْفِ دِرْهَمٍ، فَعَمِلَ ثَلَاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ دِرْعاً، فَبَاعَهَا بِثَلَاثِمِائَةٍ وسِتِّينَ ألْفاً، واسْتَغْنى عَنْ بَيْتِ المَالِ)[23]، فكأنّ للإلحاح أربعين يوماً في الدعاء دخل في الانقطاع إلى الله تعالى وما يترتّب عليه من استجابة الدعاء.
بل لعلّ ما ورد من أنّ الأرض قبل القيامة تبقى ترفع منها الحجة مدّة أربعين يوماً ناظرة إلى هذا المعنى، فقد ورد عَنْ أبِي عَبْدِ الله عليه السّلام أنّه قَالَ: (مَا زَالَتِ الأرْضُ إلَّا وللهِ الحُجَّةُ يَعْرِفُ الحَلَالَ والحَرَامَ ويَدْعُو إلَى سَبِيلِ الله ولَا يَنْقَطِعُ الحُجَّةُ مِنَ الأرْضِ إلَّا أرْبَعِينَ يَوْماً قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ فَإذَا رُفِعَتِ الحُجَّةُ أُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ ولا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ أنْ تُرْفَعَ الحُجَّةُ، أُولَئِكَ شِرَارٌ مِنْ خَلْقِ الله وهُمُ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ تَقُومُ القِيَامَةُ)[24].
خامساً: لا تنافي بين ما ذكرناه سابقاً وبين ما ورد في بعض الأخبار من أنّ السنّة في الأعمال المداومة عليها مدّة سنّة، كما جاء في معتبرة الحلبيّ، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: (إذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ سَنَةً ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إنْ شَاءَ إلَى غَيْرِهِ وذَلِكَ أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ يَكُونُ فِيهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ مَا شَاءَ الله أنْ يَكُونَ)[25]، فإنّ ذلك مرتبط بأصل المداومة على العبادة، وما نحن فيه مرتبط بأثر خاصّ يراد ترسيخه في النفس.
سادساً: ما ذكرناه من خصوصيات إنّما هي سنّة عامّة وإلّا فإنّه ﴿لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: 4]، فلا نحتّم على الله شيئاً، وقد ورد التنصيص على ما يؤدّي هذا المعنى فيما روي عن عليّ بن أسباط قال حكاية عن الإمام الجواد عليه السّلام: (خَرَجَ عَلَيَّ، فَنَظَرْتُ إلى رَأْسِهِ ورِجْلَيْهِ لِأصِفَ قَامَتَهُ لِأصْحَابِنَا بِمِصْرَ، فَبَيْنَا أنَا كَذلِكَ حَتّى قَعَدَ، وقَالَ: يَا عَلِيُّ، إنَّ الله احْتَجَ فِي الإمَامَةِ بمِثْلِ مَا احْتَجَ فِي النُّبُوَّةِ، فَقَالَ: ﴿وآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: 12]، وقَالَ: ﴿حَتَّى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15] فَقَدْ يَجُوزُ أنْ يُؤْتَى الحِكْمَةَ صَبِيّاً ويَجُوزُ أنْ يُعْطَاهَا وهُوَ ابْنُ أرْبَعِينَ سَنَةً)[26].
سابعاً: ما ذكرناه جنبة من جوانب البحث، وإلّا فالموجود في الأخبار ما هو أعظم من ذلك وقد تربط بعض الأمور بأربعين عاماً كما هو منطوق الآية من تحديد بلوغ الأشدّ في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إذَا بَلَغَ أشُدَّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15]، أو في مسألة التّيه كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: 26].
وقد روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: (إذَا أتَتْ عَلَى الرَّجُلِ أرْبَعُونَ سَنَةً، قِيلَ لَهُ: خُذْ حِذْرَكَ، فَإنَّكَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، ولَيْسَ ابْنُ الأرْبَعِينَ بأحَقَ بالحِذْرِ مِنِ ابنِ العِشْرِينَ، فإنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُمَا وَاحِدٌ ولَيْسَ بِرَاقِدٍ، فاعمَلْ لِمَا أمَامَكَ مِنَ الهَوْلِ، ودَعْ عَنْكَ فُضُولَ القَوْلِ)[27].
ومثله ما ورد في مسألة الاجتماع للدعاء فعن أبي عبد الله عليه السّلام: (مَا مِنْ رَهْطٍ أرْبَعِينَ رَجُلاً اجْتَمَعُوا فَدَعَوُا الله فِي أمْرٍ إلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ، فَإنْ لَمْ يَكُونُوا أرْبَعِينَ، فَأرْبَعَةٌ يَدْعُونَ الله عَشْرَ مَرَّاتٍ إلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ، فَإنْ لَمْ يَكُونُوا أرْبَعَةً، فَوَاحِدٌ يَدْعُو اللهَ أرْبَعِينَ مَرَّةً، فَيَسْتَجِيبُ اللهُ العَزِيزُ الجَبَّارُ لَهُ)[28].
أو ما ورد في تقديم الدعاء لأربعين مؤمن كما روي عن أبي عبد الله عليه السّلام: (مَنْ قَدَّمَ أرْبَعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ)[29]، أو ما ورد عن أبي عبد الله عليه السّلام: (إذَا حَضَرَ الميِّتَ أرْبَعُونَ رَجُلاً، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ إنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْراً، قَالَ اللهُ: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَتَكُمْ، وغَفَرْتُ لَهُ مَا عَلِمْتُ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَ)[30]، أو ما ورد في تكرار بعض الأذكار بهذا العدد[31].
والمتحصّل من جميع ما تقدّم أنّ ظاهر النّصوص وجود خصوصيّة لرقم الأربعين، وأنّ خصوصيّته تكوينيّة ترتبط بطبيعة خلقة الإنسان، لكنّ هذا لا يعني بوجهٍ من الوجوه فتح باب التقوّل والتخرّص وتعاطي علم الغيب والجزم بترتّب آثار معيّنة على تكرار ذكر معيّن أربعين يوماً أو سورة معيّنة أربعين مرّة، بل هذه الأمور غيب من غيوب الله تعالى ولا سبيل لتحصيلها إلّا من طريق الوحي، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام في الحديث الذي روي فيه أنّ سلمان كان محدَّثاً، قال: (إنَّهُ كَانَ مُحَدَّثاً عَنْ إمَامِهِ لَا يَجُوزُ بِهِ؛ لِأنَّهُ لَا يُحَدَّثُ عَنِ اللهِ إلَّا الحُجَّةُ) [32].
هذا آخر ما أردنا بيانه في هذا المقام، والحمد لله ربّ العالمين.