"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
يُعرف أنّ عليّ بن الحسن بن فضال لا يروي عن أبيه دون واسطة لصغر سنّه عند موت الحسن، فما هو حكم الروايات التي تنقل روايته مباشرة عن أبيه؟
في كتاب كمال الدين للصدوق رحمه الله، باب ما روي أنّ الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسنين عليهما السلام، نجد رواية ينقلها علي بن الحسن بن فضال بهذا الشأن (والسند بحسب بحثنا القاصر معتبر) فكيف يكون ذلك؟
نص الرواية:
حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد الهمداني قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن هشام بن سالم قال: قلت للصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن أفضل من الحسين. [قال:] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أحبّ أن يجعل سنّة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين عليهما السلام، ألا ترى أنّهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة، وإنّ الله عز وجل جعل النبوة في ولد هارون ولم يجعلها في ولد موسى، وإن كان موسى أفضل من هارون عليهما السلام، قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا إلّا أن يكون أحدهما صامتا مأموما لصاحبه، والآخر ناطقاً إماما لصاحبه، فأمّا أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا.
قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام؟ قال: لا إنّما هي جارية في عقب الحسين عليه السلام كما قال الله عز وجل: "وجعلها كلمة باقية في عقبة " ثم هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة.
بسم الله الرحمن الرحیم
1- بيان منشأ الدعوى وتحليلها
دعوى عدم رواية عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه الأصل فيها ما ورد في كلمات النجاشيS، وتمام العبارة هي قوله: (ولم يروِ عن أبيه شيئاً، وقال: كنت أقابله وسِنِّي ثمان عشرة سنة بكتبه ولا أفهم إذ ذاك الرّوايات ولا أستحلُّ أن أرويها عنه. وروى عن أخويه عن أبيهما. وذكر أحمد بن الحسين أنّه رأى نسخة أخرجها أبو جعفر بن بابويه وقال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا [عليه السلام]، ولا يعرف الكوفيّون هذه النسخة ولا رويت من غير هذا الطريق)[1].
وكما ترى، ففي هذه العبائر أموراً أربعة:
الأوّل: ما ذكره النجاشي من أنّ ابن فضال لم يروِ عن أبيه، وأنّه روى عنه بواسطة أخويه أحمد ومحمد، وهو قوله: (ولم يروِ عن أبيه شيئاً... وروى عن أخويه عن أبيهما).
الثاني: أنّ ابن فضال قد ذكر ذلك وبيّن أنّ السبب ليس إلّا صغر سنّه عند مقابلة الكتب، فقد قال على ما نقل عنه النجاشي: (كنتُ أقابله وسني ثمان عشرة سنة بكتبه ولا أفهم إذ ذاك الروايات ولا أستحل أن أرويها عنه).
الثالث: أنّ أحمد بن الحسين -يعني ابن الغضائريّ- قد ذكر أنّه رأى نسخة أخرجها ورواها الشيخ أبو جعفر بن بابويه -يعني الصدوقS- عن الطالقاني عن ابن عقدة عن ابن فضال عن أبيه عن الإمام الرضاg، فقال: (وذكر أحمد بن الحسين رأى نسخةً أخرجها أبو جعفر بن بابويه، وقال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضاg)، وهذا إشارة إلى منافاة بين ما يؤثر عن ابن فضال وبين ما هو مثبت في هذه النسخة من رواية ابن فضال عن أبيه الحسن.
الرابع: أنّ النجاشي أو ابن الغضائري قد علّق على هذه النسخة بالقول: (ولا يعرف الكوفيّون هذه النسخة ولا رويت من غير هذا الطريق)، وفيه نحو تشكيك بتلك النسخة.
2- توضيح وتعليق على ما ذكره الشيخ النجاشيS
إذا عرفت هذا، وقبل الورود في بيان ما ذكر في كلمات الأعلام في توجيه العبارة لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ تلك النسخة التي ذكرها ابن الغضائري قد انعكست في كتب الشيخ الصدوقS، وبما أنّ هذه النسخة ينتهي سندها إلى الإمام الرضاg فكتاب (عيون أخبار الرضاg) مظنّة العثور على أخبار تلك النسخة، ومن لاحظه -والدعوى أنّ الاستقراء استقراء تامّ - وجد 30 حديثاً مروياً عن (ابن عقدة عن عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه)[2]، مع الالتفات إلى أنّه في بعض الموارد قد يقع تحريف ما في نسبة ابن فضال، فيقال: (عليّ بن الحسين بن عليّ بن فضال)[3]، وهو (عليّ بن الحسن) كما لا يخفى.
وهذه الأحاديث التي يرويها الصدوق في العيون يرويها عن ابن عقدة بواسطة أربعة مشايخ:
1- محمد بن أحمد بن إبراهيم المعاذي.
2- محمد بن بكران النقاش.
3- أحمد بن الحسن بن القطان.
4- محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني.
والرواية عن هذه الجماعة في 49 سنداً، فبعض الأحاديث تروى عن شيخ واحد من هؤلاء المشايخ[4]، وبعضها عن اثنين[5]، وبعضها عن ثلاثة[6]، وبعضها عن الأربعة[7]، ولذا تغاير عدد الأسانيد مع عدد الأحاديث، فليس كلّ شيخ انفرد برواية خبر من تلك الأخبار، وهي عن المعاذي (3)، وعن النقاش (11)، والقطان (9)، وعن الطالقاني (26).
وإنّما ذكرنا هذا الاستقراء لنؤكّد على مسألتين:
الأولى: هذه النسخة لم تنحصر روايتها من طريق الطالقاني حتى يشكّك في وثاقته[8]، وبالتالي يشكّك بصحة السند، بل رواها غير واحد من مشايخ الصدوق، فأصل وجود مثل هذه النسخة المروية عن ابن عقدة مما لا ينبغي الإشكال فيه، وابن عقدة من الثقات المعروفين.
الثانية: أنّ الصدوق -كما يظهر من بعض الأسانيد- قد أخذ النسخة عن الطالقاني في الري[9]، لكن قد أخذ أحاديث هذه النسخة من النقّاش في الكوفة كما يظهر من موضعين في العيون، وهما:
الأوّل: قال الصدوق: (حدّثنا محمّد بن بكران النّقّاش -رضي اللّه عنه- بالكوفة سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمائةٍ، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيدٍ الهمدانيّ مولى بني هاشمٍ، قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّالٍ، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضاg...)[10].
الثاني: قال الصدوق: (حدّثنا محمّد بن بكران النّقّاش في مسجد الكوفة، ومحمّد بن إبراهيم بن إسحاق المكتّب -رضي اللّه عنه- بالرّيّ، قالا: حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيدٍ الهمدانيّ مولى بني هاشمٍ، قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّالٍ، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضاg...)[11].
وعليه، فدعوى أنّ هذه النسخة غير معروفة في الكوفة ينبغي أن تحمل على عدم معروفيتها عند مشايخ الشيخ النجاشي أو ابن الغضائري، وإلّا فكما رويت هذه النسخة في الريّ رويت في الكوفة عن ابن عقدة كما شهد على ذلك الشيخ الصدوقS.
3- علاج إشكالية البحث
نستعرض هنا ما عثرنا عليه من عبائر للعلماء في مقام علاج الإشكالية المطروحة أعني الجمع بين ما ينقل عن علي بن الحسن بن فضال من عدم روايته عن أبيه مباشرة وبين الواقع الخارجي حيث وقعت له الرواية عن أبيه لا أقلّ بلحاظ تلك النسخ المعروفة المنقولة عن ابن عقدة عنه عن أبيه عن الإمام الرضاg.
أ- ما جاء في منتهى المقال نقلاً عن الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزيS في الفوائد النجفية، ونصّ العبارة: (في كتاب عيون الأخبار رواية علي بن الحسن بن فضّال عن أبيه كثيرة جدّاً، وكذا في كتاب الخصال والأمالي والعلل وغيرها، وفي أكثرها سند الصدوق إليه هكذا: عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، عن أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني وهو ابن عقدة، عن علي بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن الرضا عليه السلام؛ فما ذكره النجاشي طاب ثراه ممّا لا تعويل عليه، انتهى، فتأمّل)[12]، والأمر بالتأمّل من الحائري ناقل هذه العبارة عن الماحوزي، ولعلّ الوجه فيه ما عرفته من أنّ النجاشي ملتفت إلى هذه النسخة المنقولة عن الطالقاني عن ابن عقدة، وقد صدر منه ما يقتضي التشكيك في صحة نسبتها.
أقول: التشكيك بالنسخة -إن كان هو المقصود للنجاشيS - فقد عرفت أنّه لا وجه له، وأنّ طريقها لا ينحصر بالطالقاني، وأنّ النسخة قد رويت في الكوفة كما رويت في الريّ، لكن يبقى أنّ هذا البيان لا يبرر وجه العبارة المنقولة عن عليّ بن فضال.
ب- ما جاء في كلمات السيد الخوئيS الذي قال بعدما عرض جملة من الموارد التي فيها رواية عليّ بن فضال عن أبيه: (فلا مناص من الالتزام إمّا بعدم صحة ما ذكره النجاشي، أو بعدم صحة هذه الروايات، والظاهر أنّ الالتزام بعدم صحة هذه الروايات أهون؛ فإنّ مشايخ الصدوق الذين ذكرناهم في هذه الروايات كلّهم ضعاف، فلا يمكن رفع اليد بأخبارهم عما حكاه النجاشي، عن علي بن الحسن بن فضال. ومما يؤيد صحة قول النجاشي: أنّ الروايات المزبورة كلّها عن أحمد بن محمد بن سعيد، وهو من مشاهير المحدّثين، فلو كانت له رواية عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، لكثر نقلها في الكتب الأربعة، ولم نظفر بذلك إلّا في موردين من التهذيب، فقد روى الشيخ، عن ابن قولويه، عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب، عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، الجزء 6، باب حد حرم الحسين (عليه السلام) وفضل كربلاء، الحديث 145. وروى بإسناده، عن أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: أخبرنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، الجزء 6، باب من الزيادات من المزار، الحديث 19. وهاتان الروايتان وإن صح سندهما إلّا أنّه يمكن الالتزام فيهما بسقوط الواسطة بين علي بن الحسن وبين أبيه، أو يقال: إنّ علي بن الحسن بن فضال لعدم فهمه الروايات لم يروِ عن أبيه فيما يرجع إلى الحلال والحرام، وأمّا روايته عنه فيما يرجع إلى أمور أخر كالزيارات وما يلحق بها فلا مانع عنها، والفرق بينهما أنّ الروايات فيما يرجع إلى الحلال والحرام تبتلى بالمعارضات والمخصصات والمقيدات، ونحو ذلك، فلا بدّ في فهمها من قوة واستعداد، وأمّا ما يرجع إلى الزيارات فيكفي في فهمها أن يكون للإنسان ثماني عشرة سنة. ويؤيد الوجه الثاني أن جعفر بن محمد بن قولويه أيضاً روى عن محمد بن أحمد بن علي بن يعقوب، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه. كامل الزيارات: الباب 9، في الدلالة على قبر أمير المؤمنين، الحديث)[13].
أقول: ما ذكر أوّلاً من عدم صحة ما ذكره النجاشي هو المذكور سابقاً فلا نقف عنده، والمهم تقييم ما ذكره ثانياً، ويمكن تلخيصه بنقطتين:
أوّلاً: أنّ جميع الروايات التي نقلت من طريق ابن عقدة عن ابن فضال ضعاف؛ لضعف مشايخ الصدوق الأربعة، فلا تعارض شهادة هؤلاء ضعاف ما ذكره النجاشي نقلاً عن عليّ بن فضال.
ثانياً: أنّ النسخة منقولة عن ابن عقدة، وهو من المشاهير، فلو كانت النسخة معتبرة لشاعت وكثر نقلها في الكتب الأربعة، مع أنّنا لم نظفر بذلك إلّا في موردين من التهذيب، لكن يحتمل في هاتين الرواتين أحد أمرين:
الأوّل: سقوط الواسطة بين علي بن الحسن وبين أبيه.
الثاني: أنّ علي بن الحسن بن فضال لم يروِ عن أبيه فيما يرجع إلى الحلال والحرام حصراً، وهذه الأخبار لا ربط لها بذلك.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّ ما ذكر من ضعف مشايخ الصدوق فقد عرفت ما فيه سابقاً وأنّ الضعف -على تقدير تسليمه- لا يسقط النسخة عن الاعتبار بعدما عرفت من الاستفاضة، وكون هذه النسخة منقولة في كلٍّ من الكوفة والريّ معاً.
وأمّا دعوى عدم وجدانها في الكتب الأربعة -فعلى تقدير صحته- فلا يعدّ شاهداً على عدم صحة النسخة، بل يشهد على عدم وصول النسخة بطريق معتبر إلى أصحاب هذه الكتب أو أنّ مضامينها لم تكن متناسبة مع موضوعات كتبهم على أنّ عدد الأحاديث التي فيها -بحسب ما وصلنا- ليست بذلك الكمّ الكبير.
ثانياً: على أنّ الصدوق قد نقل بعض أخبار هذه النسخة في من لا يحضره الفقيه، فروى عن علي بن فضال عن أبيه عن الإمام الرضاg في العلّة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره[14]، وهو وإن لم يذكر طريقه إلى علي بن فضال في المشيخة، إلّا أنّ هذا الحديث قد رواه بعينه من طريق الطالقاني عن ابن عقدة عن عليّ بن فضال في العيون وعلل الشرائع[15]، وأوضح منه ما رواه عن ابن عقدة عن ابن فضال عن أبيه عن الإمام الرضاg في علامات الإمام[16]، وقد رواه عن الطالقاني عن ابن عقدة في كلّ من العيون والخصال[17].
ثالثاً: قوله: (الروايات المزبورة كلّها عن أحمد بن محمد بن سعيد، وهو من مشاهير المحدّثين، فلو كانت له رواية عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، لكثر نقلها في الكتب الأربعة، ولم نظفر بذلك إلّا في موردين من التهذيب، فقد روى الشيخ، عن ابن قولويه، عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب، عن علي بن الحسن بن فضال... وروى بإسناده، عن أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: أخبرنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه)، غير واضح بلحاظ الاستثناء الأوّل، فإنّ الرواية الأولى لم تنقل عن ابن عقدة ولیست عن الإمام الرضاg، فإنّ الموجود في التهذيب قوله: (وعنه عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب، عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أحدهماh...)[18].
نعم، الحديث الثاني يصح ذكره كاستثناء، فقد روى الشيخ أبو جعفر الطوسيS في التهذيب عن أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: أخبرنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضاg أنّه قال: (إنّ بخراسان لبقعة يأتي عليها زمان تصير مختلف الملائكة...)[19]، وهو -كما في المشيخة- يروى عن ابن عقدة بواسطة أحمد بن محمد بن موسى یعنی ابن الصلت، فعلى ظاهر الشهادة فهذه شخصية خامسة تشهد بوجود النسخة.
وقد روى الصدوق هذا الحديث في كلّ من العيون بواسطة مشايخه الأربعة[20]، وبواسطة خصوص الطالقاني كما في الأمالي[21]. ومن اللافت أنّ هذا الحديث مروي في الفقيه لكن عن الحسن بن عليّ بن فضال مباشرة، وكأنّ في السند سقط، وأنّ حقّ السند أن يبتدأ بعليّ ولده[22].
رابعاً: الالتزام بسقوط الواسطة بين عليّ وأبيه يصحّ احتماله في كلّ سند لم يذكر فيه ابن عقدة عن ابن فضال عن أبيه عن الإمام الرضاg، لكن لا يصح احتمال في مثل هذا السند وإلّا فأصل الدعوى هي رواية النسخة من دون واسطة، وهو المثبت في كتب الأصحاب كما عرفت، ولا تشكل بأنّ السيّد الخوئيS قد ضعف تلك الأسانيد، فقد نصّ على صحة السند الثاني المذكور في التهذيب.
خامساً: أنّ ما ذكره من التفرقة بين الحلال والحرام وغيرها مما لم يتضح وجهه أبداً، وإلّا فالعبارة المأثورة عن ابن فضال قوله: (كنت أقابله وسني ثمان عشرة سنة بكتبه ولا أفهم إذ ذاك الروايات ولا أستحل أن أرويها عنه)، فهو قد قابل الكتب لكن لم يكن يفهم الروايات، لا يحتاج في المقابلة إلى الالتفات إلى المعارضات والمخصصات والمقيّدات، بل غاية ما يحتاج إليه -حيث يراد الخروج عن حالة التلقين- فهم الجمل وذات الحديث، وهذا أمر يستوي فيه علم الفروع مع غيره.
على أنّه قد روي في الكافي ما نصّه بحسب المطبوع: (أحمد بن محمد[23]، عن علي بن الحسين، عن محمد بن الحسين، عن أبيه، قال: كتبت إلى أبي الحسنg ما تقول في التلطّف يستدخله الإنسان وهو صائم؟ فكتب: لا بأس بالجامد)[24]، وهذا الحديث بهذا السند لا يكاد يفقه، لكن من لاحظ كلاً من التهذيب والاستبصار وجد هذا المتن قد روي بهذا السند: (أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحسن، عن أبيه، قال: كتبت إلى أبي الحسنg)[25].
وفي الوافي بعدما نقل هذا السند، قال: (إسناد هذا الحديث في بعض نسخ الكافي هكذا: أحمد عن علي بن الحسين، عن محمد بن الحسين، عن أبيه، والصواب ما كتبناه كما في النسخ الأُخر، موافقاً لما في التهذيبين)[26].
وهذه الرواية في الفقه، وقد استحسن السيد الخوئيS في بحثه الفقهي ما ذكره في الوافي، فقال: (هذا، ولكن ذكر في الوافي رواية الكليني على طبق رواية الشيخ وبعين ذلك السند، وذكر أنّ في بعض النسخ روايته بسند آخر وهو الذي ذكرناه، ورجح هوS تلك النسخة الموافقة للتهذيبين. وما ذكرهS حسن؛ لأنّه إذا كانت نسخ الكافي مختلفة وكانت الرواية موجودة في التهذيب يستكشف من ذلك أنّ الصحيح هو ما كان موافقاً للتهذيب. إذن فالرواية رواية واحدة رواها الشيخS ورواها الكلينيS أيضاً)[27].
والحاصل: أنّ ما ذكرهS مما لا شاهد واضح عليه، بل الشواهد على خلافه.
ج- أنّ ما ذكر كان مذهباً لابن فضّال، لكنّه عدل عنه بعد ذلك، وقد أخذ عنه ابن عقدة النسخة بعد عدوله؛ فإنّ فهم الأحاديث ليست شرطاً في صحة مقابلة النسخ، بل يكفي إحراز التطابق بين النسختين، وإلّا فلا يراد النقل بالمعنى عند مقابلة الكتب.
وقد نقل ما يناسب هذا المعنى عن المحقق التستري، فقد جاء ضمن هامش بعض تحقيقات كتاب الخصال ما نصّه: (قال الفاضل المحقق التستري: ويمكن الجمع بأن علي بن الحسن بن فضال كان لا يستحلّ ذلك أولاً واستحله أخيراً؛ لأنّ أباه كان يقابل معه كتبه وذلك يكفي في الرواية؛ لأنّها كالشهادة في كون العبرة فيها وقت الأداء لا التحمل، فعدم فهمه يومئذٍ غير مضر، وحينئذٍ فالكوفيون رأوا قوله الأوّل، والقميون عمله الأخير)[28]، وبغض النظر عمّا ذكره أخيراً، فأصل ما ذكره هو الأقرب.
[2] عيون أخبار الرضاg، ج1، ص125، و129، و210، و212، و260، و273، و281، و291، و292، و293، و294، و295، و298، و303، وج2، ص57، و75، و79، و80، و81، و85، و86، و255، و257، و263.
[4] عن المعاذي منفرداً في العيون، ج1، ص125، وعن النقاش ج1، ص129، وعن القطان ج1، ص210، والطالقاني ج1، ص212.
[8] يعني بدعوى عدم ورود توثيق صريح بحقّه، وإن كان الأصح عندنا وثاقته لمكان كثرة رواية الصدوق عنه مترحماً ومترضياً.
[23] في تحديد أحمد بن محمد الذي يروي عنه الكليني كلام، لكن المناسب مع هذا السند أن يكون هو ابن عقدة لا العاصمي، وإذا تمّ هذا يكون عندنا شاهد سادس على النسخة أعني الشيخ الكليني، فليتدبر.
[28] الخصال، ص527، تعليقات الغفاري.