"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".
السؤال: ما المقصود من قاعدة: >زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني<، ولماذا أنكرها السيد الخوئيS؟
بسم الله الرحمن الرحيم
1- توضيح القاعدة
قُسّمت الحروف في الاصطلاح إلى حروف المعاني وحروف المباني، ويقصد من حروف المعاني تلك الحروف التي وضعت لمعنى ما من قبيل: >من< و>إلى< ولا تشكّل جزءً من كلمة، وحروف المباني هي الحروف التي تتكون منها بنية الكلمة، فـ(زيد) مؤلف من حروف الـ(ز _ ي _ د)، ويطلق عليها اسم >الحروف الهجائية<، وتسميتها بحروف المباني من جهة بناء الكلمة منها.
والمقصود الإجمالي من قاعدة: >زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني<، ليس إلّا أنّ اللغة العربية، وبعد أن كان بناؤها على الاشتقاق، وما يلزم الاشتقاق من زيادة حروف أو نقصانها، فكلّما كانت الحروف المضافة إلى مادّة من الموادّ أكثر، كلّما كان المعنى أكثر.
مثلاً: قوله تعالى: ﴿ورَاوَدَتْهُ التِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأبْوَابَ﴾[1] فإنّ (غلّق) يزيد في المبنى عن (غَلَق)، وهو أوضح مبالغة منه ولو بلحاظ الكيف، وكذا قوله تعالى: ﴿وتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ﴾[2]، فإنّ (قَرَّن) أبلغ وأشدّ في الإحكام من (قَرَنَ)، وقوله تعالى: ﴿فكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ والغَاوُونَ﴾[3]، فإنّ معنى كُبكِبوا من الكب وهو القلب، إلاّ أنـّه مكرر المعنى، وقد قيل في وجهه: أنّ فيه دلالة على شدّة العقاب، وأنـّهم لا يكبون مرةً واحدةً، بل على دفعات.
ومن الملفت للنظر ما جاء في ضمن قصة نبي الله موسىg حيث كان التعبير قبل بيان التأويل بـ>تستطيع<، فقال الله تعالى: ﴿قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾[4]، وبعد خرق السفينة: ﴿قَالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾[5]، وبعد قتل الغلام قال تعالى: ﴿قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾[6]، وبعد بناء الجدار، قال تعالى: ﴿قَالَ هذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنبِّئُكَ بتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾[7]، وحذف الياء هنا لمكان أداة الجزم (لم) لا لأجل هذه القاعدة، لكنّه بعد التأويل والتوضيح جاء قوله تعالى: ﴿ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾[8]، فبعد أن كان ينفي الصبر قبل التأويل بما هو أزيد في المباني (تستطيع)، بعد التأويل صار ينفى بما هو أقلّ (تسطع) بعد أن كانت معرفة السبب مبطلة للعجب.
2- الدليل على صحة هذه القاعدة
هذا من جهة توضيح القاعدة، وأمّا ما يمكن أن يطرح كدليل عليها، فنقول:
أوّلاً: من الأبحاث التي اعتنى بها فقهاء اللغة وبتبعهم علماء الأصول جملة من مباحث المتعلّقة باللفظ والمعنى من قبيل البحث عن علاقة اللفظ بالمعنى، ومن وهو الواضع، وحقيقة الاستعمال المجازي، واستعمال اللفظ في أكثر من معنى إلى غير ذلك من الأبحاث المبيّنة في علم الأصول عندنا، وفي جملة من كتب فقه اللغة بشكل عامّ.
وما يهمنا في المقام التنبيه إلى أنّه قد استقرت كلمة المشهور على كون العلقة بين اللفظ والمعنى من قبيل العلقة الوضعية دون الذاتيّة، فهي علقة اعتبارية بين اللفظ والمعنى، أي هي بجعل جاعل بغض النظر عن حقيقة هذا الجعل، لا أنّها علقة تكوينية ذاتيّة بحيث يكون دور الواضع مجرّد اكتشاف دلالة اللفظ على أيّ معنى من المعاني.
ثانياً: إنّ إنكار العلقة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى والقول بكونها من قبيل العلقة الاعتبارية لا يلازم إنكار أنّ الواضع يختار الألفاظ على أساس ما في المعنى من مؤدّى، فيختار لإفادة معنى السكون والهمس والإخفات حروفاً لا جهر فيها، بخلاف ما يؤدّي معنى الضجيج والضوضاء حيث يختار لها حروفاً تناسب معناها، ومن هنا يتلاءم إنكار العلقة الذاتية بين اللفظ والمعنى، مع الإيمان بأنّ الواضع يلحظ مناسبة ما بين اللفظ والمعنى، وهي تناظر العلقة الطبعية المذكورة في علم المنطق، ومن أوضح أمثلتها ما يسمّى في اللغة بالاشتقاق الكبير أو الأكبر.
ثالثاً: القواعد اللغوية إنّما تكتشف عن طريق استقراء كلمات العرب، ويدّعي أئمة اللغة أنّهم لاحظوا ظاهرة في اللغة العربية، وهي أنّ العرب تزيد في المبنى كلّما أرادت زيادة المعنى، أي تزيد في الحروف لبيان معنى أعظم من المعنى الأصلي، ومن الشواهد اللطيفة على ذلك ما ذكره الزمخشري (م538هـ ق) عند بيان الفرق بين الرحيم والرحمان: >ومما طنّ على أذني من ملح العرب أنّهم يسمّون مركباً من مراكبهم بالشُقْدُف، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي، فقال: أليس ذاك اسمه الشُقْدُف؟ قلتُ: بلى، فقال: هذا اسمه الشُقْنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمّى<[9].
هذا، ولعلّ أوّل من فتح باب هذا البحث هو أبو الفتح عثمان بن جني (م392هـ ق) المعروف بابن الجني[10]، فإنّ المقصود من هذه القاعدة وجود ملازمة بين زيادة الحروف والألفاظ والأصوات وزيادة المعنى، فيقول ابن الجني: >الأصوات تابعة للمعاني فمتى قويت قويت ومتى ضعفت ضعفت، ويكفيك من ذلك قولهم: قطع قطّع، كسر كسّر، زادوا في الصوت لزيادة المعنى، واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه<[11].
وعليه، وبما أنّ المقصود الأساس من اللفظ إفادة المعنى جعل الأصل هو المعنى، فالمعنى هو الذي يتحكّم ببنية اللفظ، بعد أن كان اللفظ آلة لإيصاله، فقال في الخصائص: >فإذا كانت الألفاظ أدلّة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به<[12].
وفي المحتسب أيضاً ـ الموضوع للحديث عن القراءات الشاذّة ـ وعند التعرض لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[13]، ذكر وجود قراءة: >متجنّف لإثم< فقال: >كأنّ متجنّفاً أبلغ وأقوى معنى من متجانف؛ وذلك لتشديد العين، وموضوعها لقوّة المعنى بها<[14].
رابعاً: حال هذه القاعدة اللغوية كحال سائر القواعد اللغوية، لا ينبغي أن يعامل معها معاملة القواعد العقلية؛ لوضوح ورود بعض النقوض عليها فيما لو حافظنا على حرفيّتها، كالفرق بين (صدق) و(صادق) عند الوصف، حيث إنّ الوصف بالمصدر أقوى دلالة كما في قوله تعالى: ﴿ووَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾[15]، مع أنّه أقلّ حروفاً. وقس عليه قوله تعالى: ﴿وجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بدَمٍ كَذِبٍ﴾[16] الأقوى من مكذوب، بل كأنّه الكذب بعينه، و﴿أمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إنِ الكَافِرُونَ إلّا فِي غُرُورٍ﴾[17] الأقوى من غار.
ومن هنا أنكرت كليّة هذه القاعدة فجاء في المغني لابن هشام (م761هـ ق) قوله عند الحديث عن الفرق بين السين وسوف: >كأنّ القائل بذلك نظر إلى كثرة الحروف تدلّ على كثرة المعنى، وليس بمطّرد<[18]، والتعبير بالأغلبية ذكره الشيخ البهائي (م1031هـ ق)[19]، وذكره الحر العامليّ (م1104هـ ق) أيضاً[20].
والإنصاف أنّ عدم الاطراد هو الذي يقتضيه ما تقدّم منّا من أنّ الأصل في هذه القاعدة كون العلقة بين اللفظ والمعنى علقة طبعية لا ذاتية عقلية لا تختلف ولا تتخلف، فأصل القاعدة ثابت بالوجدان، لكن دعوى عمومها غير واضح.
ثم وفي كلمات من تأخّر حاول بعضهم تحديد تلك المستثنيات عن القاعدة، واشتهر بينهم تحديدها بثلاثة، فقال الخطيب الشربيني (م977هـ ق) في كتابه الإقناع في الفقه الشافعي تعليقاً على هذه القاعدة ما نصّه: >هذه القاعدة مشروطة بشروط ثلاثة:
[الأوّل]: أن يكون ذلك في غير الصفات الجبلية، فخرج نحو شَرِه ونهم؛ لأنّ الصفات الجبلية لا تتفاوت.
[الثاني]: وأن يتحد اللفظان في النوع، فخرج حذر حاذر.
[الثالث]: وأن يتحدا في الاشتقاق، فخرج زمن وزمان؛ إذ لا اشتقاق فيهما<[21].
أقول: ما جاء في الاستثناء الأوّل غير واضح عندي، وإلاّ فلا إشكال في أنّ الصفات الجبلية قابلة للتفاوت، لكن ما ذكر في الأخيرين قريب، لا سيّما الثاني وإلاّ فمن الوضوح بمكان أنّ زيادة حروف المضارعة - مثلاً - لا توجب زيادة في معنى الفعل، بل هي في حقيقتها توجب تبدلاً في المعنى، وكأنّ حقّ هذا الشرط الثاني أن يصاغ بقولهم: >أن تكون الزيادات مع بقاء المعنى الأوّل<، وإلاّ فلو أريد تغيير المعنى، فلا تكون زيادة المباني دليلاً على زيادة المعاني كأحرف المضارعة، مثلاً: في >ضرب< >يضرب< لا زيادة في المعنى، بل تغيّر الصيغة من دلالة إلى دلالة أخرى، فهي زيادة للتغيير لا لزيادة المعنى، بخلاف: >كسب< و>اكتسب<.
ومن هنا يمكن تخريج عدم ورود القاعدة في المثال الذي ذكره أعني (حذر) و(حاذر)؛ لأنّ الأوّل صفة مشبهة تدلّ على الدوام والاستمرار أو صيغة مبالغة، والثاني اسم فاعل لا يدل إلّا على الاتصاف بمضمونه ولو مرّة.
والحاصل: أنّ هذه القاعدة لا بأس بها، لكنّها غالبية حتى لو راعينا الشرائط الثلاثة؛ باعتبار اتكائها على دلالة طبعية لا تقتضي الكليّة والديمومة، وما وقع في بعض الكلمات من محاولة الاستدلال عليها بحكمة الوضع، وأنـّه لولا زيادة المعنى لكان الوضع الثاني لغوياً، أجيب عنه في محلّه عند الحديث عن إمكان الترادف؛ فإنّ ذلك أحد الإشكالات على صحة الترادف[22]، وقد بيّن في محلّه أنّ الترادف واقع في اللغة، ولا لغوية ولو من جهة ما يعطيه من اتساع في التعبير والإفادة.
هذا غاية ما أمكن لنا لتقريب القاعدة ، وهي بلا إشكال قاعدة يوافقها الوجدان اللغوي المكتسب من تتبع كلمات أهل اللغة، وهي صالحة لتكون قاعدة يرجع إليها كأصل من الأصول، ولا يصحّ الإشكال عليها بما جاء في كلمات السيّد عبد الأعلى السبزواريS من أنـّها مجرّد استحسان، وليست قاعدة عقلية ولا عرفية ولا شرعيّة[23]، فإنّها قاعدة عرفية تفهم من استقراء استعمالات العرب.
3- وقفة مع إشكال السيّد الخوئيS على القاعدة
تعرّض السيّد الخوئيS لهذه القاعدة في ضمن البحث عن شرح سورة الفاتحة، فقال ما نصّه: >ذكر ﴿الرحيم﴾ بعد ﴿الرحمن﴾: قد عرفتَ أنّ هيئة فعيل تدلّ على أنّ المبدأ فيها من الغرائز والسجايا غير المنفكّة عن الذات. وبذلك تظهر نكتة تأخير كلمة ﴿الرحيم﴾ عن كلمة ﴿الرحمن﴾ فإنّ هيئة ﴿الرحمن﴾ تدلّ على عموم الرحمة وسعتها، ولا دلالة لها على أنـّها لازمة للذات، فأتت كلمة ﴿الرحيم﴾ بعدها للدلالة على هذا المعنى. وقد اقتضت بلاغة القرآن أن تشير إلى كلا الهدفين في هذه الآية المباركة، فالله رحمن قد وسعت رحمته كلّ شيء، وهو ﴿الرحيم﴾ لا تنفك عنه الرحمة. وقد خفي الأمر على جملة من المفسرين، فتخيّلوا أنّ كلمة ﴿الرحمن﴾أوسع معنى من كلمة ﴿الرحيم﴾، بتوهم أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني. وهذا التعليل ينبغي أن يُعدّ من المضحكات؛ فإنّ دلالة الألفاظ تتبع كيفية وضعها، ولا صلة لها بكثرة الحروف وقلّتها. وربّ لفظ قليل الحروف كثير المعنى، وبخلافه لفظ آخر، فكلمه (حذر) تدلّ على المبالغة دون كلمة (حاذر)، وإن كثيراً ما يكون الفعل المجرّد والمزيد فيه بمعنى واحد، كضرّ وأضرّ<[24].
وكلامهS يمكن أن يرجع إلى أمرين:
الأوّل: النقض على القاعدة تارةً بأنّ الكلمة قد تساوي أصلها من حيث المعنى، وإن كانت أكثر حروفاً كما في مثل >ضرّ< و>أضرّ<، وأخرى من جهة أنّ الناقص من حيث اللفظ قد يكون أزيد من حيث المعنى كما في مثل: >حذر< و>حاذر<.
الثاني: الحلّ، وحاصله: أنّ هذه القاعدة لا أساس موضوعي لها؛ باعتبار أنـّه يمكن تعقّلها فيما لو كان العلقة بين اللفظ والمعنى ذاتية، مع أنّ الصحيح أنّ العلقة بين اللفظ والمعنى اعتبارية، فتتبع المعاني غرض الواضع، لا عدد الحروف.
هذا، وما ذكر في الإشكال الثاني قد عرفت ما فيه، فإنّ مجرّد كون العلقة اعتبارية لا يكون مانعاً من الالتزام بهذه القاعدة، ولو من باب ما يناظر الدلالة الطبعية على ما تقدّم تقريبه.
وأمّا ما ذكر في الإشكال الأوّل أعني النقض بمثل (حذر) و(حاذر) فهو وارد على من يعتقد كليّة القاعدة ولذا طبقوها عند التفرقة بين (الرحمان) و(الرحيم)، فنقضهS في محلّه، لكن بناءً على أنّ هذه القاعدة لا تجري في مثل المقام كما تقدّم تقريبه، لا يصلح هذا الكلام لأن يكون نقضاً، على أنّ دعوى عدم وجود فرق بين (ضر) و(أضر) أوّل الكلام.
والحاصل: أنّ هذه القاعدة قاعدة صحيحة في نفسها، لكنّها ليست على إطلاقها كما توهمه عبارة البعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ