قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

"يا عليّ، أنت وصيّي وإمام أمّتي، من أطاعك أطاعني، ومن عصاك عصاني".

قال الشيخ الصدوقO في كتابه كمال الدين: >ومن ينحل للأئمة علم الغيب، فهذا كفر بالله، وخروج عن الإسلام عندنا<، انظر: كمال الدين وتمام النعمة، ص106.

السؤال: كيف يكون اعتقاد الناس بذلك كفراً بالله؟ مع أنّه قد نُقل في السِّير اطلاعُ النبيe على ما سيحدُث على أهل البيتi بعده، لا سيّما الإخبار عن واقعة كربلاء، وكذا إخباره عمّا كان يُحدّثُ بعض المشركين والمنافقين بعضهم بعضاً سرّاً، بل حتّى إخباره عمّا في ضمير بعضهم؟ وكذا إخبار الأئمةi عن الأمور المغيّبة وما سيحدث في المستقبل؟ مع أنّ جميع ذلك متواترٌ أو مستفيض، بل قد نُقل عن خواصّ أصحاب أميرالمؤمنينi أنّ بعضهم كان له علم المنايا والبلايا كما دلّ على ذلك ما حدث بين رشيد الهجري وميثم التمّار رضوان الله عليهما. فهل المراد من علم الغيب الذي لا يجوز نسبته لأهل البيتi نوع خاصّ منه أم مُطلق علمهم بالغيب أم غير ذلك؟ وهل الإماميّةُ على هذا القول، أم انفرد الشيخ الصدوقO به؟


بسم الله الرحمن الرحيم

 

قبل الورود في الجواب عن هذا السؤال، ينبغي التنبيه على أنّ العبارة المنقولة وإن كانت مذكورة في «كمال الدين وتمام النّعمة» للشيخ الصدوقS (م381هـ ق)، إلّا أنّها ليست له، بل إنّما جاءت في معرض نقله لأجوبة أبي جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازيO في كتابه >نقض كتاب الإجتهاد لأبي زيد العلوي<، حيث كان >ابن قبة< في مقام الردّ على جملة من الشبهات في مسألة الإمامة، وقد بدأ الشيخ الصدوقS في النقل عن >ابن قبة< قبل هذه العبارة بصفحات، حيث صدّر هذا البحث بقوله: >وقال أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، في نقض كتاب الإشهاد لأبي زيد العلوي، قال صاحب الكتاب بعد أشياء كثيرة ذكرها لا منازعة فيها: وقالت الزيدية والمؤتمة الحجة من ولد فاطمةj...<[1].

وقد عمد >ابن قبة< إلى تقطيع كلمات أبي زيد العلوي، وقد جاء في التعليق على عبارة ذكر فيها أنّ الإماميّة يدّعون أشياء من علوم الغيب لأئمتهم، فعلّق عليها >ابن قبة< بقوله: >ومن يَنْحَلُ للأئمة علم‏ الغيب‏، فهذا كفر بالله، وخروج عن الإسلام عندنا<[2].

وابن قبة الرازي  (م قبل سنة 319هـ ق) من علمائنا الأقدمين، وكان مشتهراً بعلم الكلام، وقد ترجم له النجاشي فقال: >محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي أبو جعفر، متكلم، عظيم القدر، حسن العقيدة، قوي في الكلام، كان قديماً من المعتزلة، وتبصر وانتقل. له كتب في الكلام. وقد سَمِعَ الحديث، وأخذ عنه ابن بطة<[3].

وقال عنه الشيخ أبو جعفر الطوسيS: >من متكلمي الإماميّة وحذاقهم، وكان أوّلاً معتزلياً، ثم انتقل إلى القول بالإمامة، وحَسنت طريقته وبصيرته<[4].

وكيف كان، فمما ينبغي الالتفات إليه أنّ فهم كلمات نصّ من النصوص يرتبط إلى حدّ كبير بفهم المصطلحات والمعاني المتبادرة منها في ذهن الراوي أو الفقيه أو المتكلّم، ولا يصحّ تحميل النصّ ما يتبادر إليه ذهننا من معنى في هذه الأيام من دون فحص عن وجود معنى خاصّ كان متعارف القصد في تلك الأزمان.

وفي المقام فإنّ >علم الغيب< كان يتبادر منه إلى فترة طويلة الاستقلال في الاطلاع على الغيب، ولأجل ذلك قد تجد التشدّد في نفيه في كلمات بعض العلماء، بل في روايات أهل البيتi، ويميّزون بين علم الغيب والتعلّم من ذي علم، وإن شئت قلت: الاطلاع على الغيب.

ولتوضيح هذه المسألة بشكل تفصيلي، نقول: إنّ الآيات المرتبطة بعلم الغيب يمكن تصنيفها إلى أصناف أربعة:

الأوّل: ما يظهر منه حصر علم الغيب بالله تعالى، مثل قوله تعالى: ﴿وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلّا هُوَ[5]، قوله تعالى: ﴿ويَقُولُونَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إنَّمَا الغَيْبُ لله فانْتَظِرُوا إنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ[6]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا الله ومَا يَشْعُرُونَ أيَّانَ يُبْعَثُونَ[7]، وقوله تعالى: ﴿وللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ[8].

الثاني: ما نصّ فيه على نفي النبيe علم الغيب عن نفسه المباركة، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ ولاَ أعْلَمُ الغَيْبَ ولاَ أقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إِنْ أتَّبِعُ إلّا مَا يُوحَى إليَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ أفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ[9]، وقوله تعالى: ﴿ولاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله ولاَ أعلَمُ الغَيْبَ[10]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً ولاَ ضَرّاً إلّا مَا شَاءَ الله ولَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إلّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[11].

الثالث: ما دلّ على أنّ لله تعالى أن يطلع على غيبه من يشاء من أوليائه، كما في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَداً * إلّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فإنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً[12]، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ الله لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ومَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ ولٰكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِالله ورُسُلِهِ وإِنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ[13].

الرابع: ما وقع فيه التنصيص على علم بعض الأنبياء بالغيب سواء على مستوى عامّ كما في الحكاية عمّا أعلمه الله تعالى لنبيّه نوحm في قوله تعالى: ﴿وأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[14]، وبعد هذا الاطلاع على الغيب دعا الله قائلاً: ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ولاَ يَلِدُوا إلّا فَاجِراً كَفَّاراً[15] كما هو المنصوص عليه في كتب الأخبار[16] والتفسير[17].

هذا مثال واحد، والقرآن مشحون بنظيره كما في حال قصة نبي الله لوطm الذي علم حال امرأته[18]، ونبي الله عيسىm الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم[19]، بل أطلع الله مريمj على غيبه كما في يحكيه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الملاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ  *وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وكَهْلاً ومِنَ الصَّالِحِينَ[20]، وقس عليه حال أم نبي الله موسىm التي علمت بأنّ ولدها سوف يردّ إليها كما يحكيه قوله تعالى: ﴿وأوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أنْ أرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فألْقِيهِ فِي اليَمِّ ولاَ تَخَافِي ولاَ تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ[21].

والجمع بين هذه المضامين -وبعد الاسترشاد بكلمات أهل البيتi - واضح، فإنّ المختصّ به الله تعالى هو العلم بالغيب ذاتاً، ولله تعالى أن يطلع على غيبه من يشاء، وقد طرحت هذه المسألة على أمير المؤمنينg عند وصفه الأتراك أو التتار، وبعدما أخبر ببعض الإخبارات الغيبية: >فقال له بعض أصحابه: لقد أُعطيت يا أمير المُؤمنين علم‏ الغيب؟‏ فضحكg، وقال للرّجل  -وكان كلبيّاً -: يا أخا كلبٍ، ليس هُو بعلم غيبٍ، وإنّما هُو تعلُّمٌ من ذي علمٍ<[22]، الحديث.

وعليه، ففرق بين علم الغيب وبين التعلّم من ذي علم، وعلم الغيب ليس إلّا ذلك الذي اختصّ به تعالى نفسه، والرسول -مثلاً- لا يعلم الغيب أبداً، غاية ما في الأمر أنّ الله تعالى ارتضاه للاطلاع على غيبه، وفرق بين المسألتين.

وفي رجال الكشي: عن حمدويه، قال حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عُميرٍ، عن ابن المُغيرة، قال، كنتُ عند أبي الحسنg أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن، فقال يحيى: >جُعلتُ فداك، إنهم يزعمون أنك تعلمُ الغيب، فقال: سبحان الله، سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرةٌ ولا في رأسي إلّا قامت، قال، ثُمّ قال: لا والله، ما هي إلّا وراثةٌ عن رسُول اللهe<[23]، فالوراثة عن رسول اللهe - أي وراثة علم رسول اللهe - ليست من علم الغيب، بل هي كما عرفت فيما مضى اطّلاع على الغيب.

وهذا الذي ذكرناه من التفرقة بين علم الغيب وبين الاطلاع على غيبه تعالى ملتفت إليه من قِبل كبار الطائفة منذ قديم الزمان، فهذا الشيخ المفيدS (م413هـ ق) قد كتب: >إنّ الأئمة من آل محمدi قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد، ويعرفون ما يكون قبل كونه، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطاً في إمامتهم، وإنّما أكرمهم الله تعالى به، وأعلمهم إيّاه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنّه وجب لهم من جهة السماع. فأمّا إطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بيّن الفساد؛ لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مُستفاد، وهذا لا يكون إلّا للهa، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذّ من المفوّضة ومن انتمى إليهم من الغلاة<[24]، فالإماميّة إلاّ من شذ من الغلاة  -ولا بدّ أنهم كانوا قائلين بما هو زائد على هذا المعنى - يفرّقون بين علم الغيب الذي هو علم غير مستفاد يعني من دون تعليم، وبين العلم المستفاد.

والتشنيع على الإماميّة بهذا القول وأنّهم ينسبون لأهل البيتi العلم بالغيب كذلك قديم، فقد قال الفضل بن الحسن الطبرسي (م548هـ ق) في مجمعه: >وجدتُ بعض المشايخ[25] ممن يتصف بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره، فقال: هذا[26] يدلّ على أنّ الله سبحانه يختصّ بعلم الغيب، خلافاً لِمَا تقول الرافضة أنّ الأئمة يعلمون بالغيب. ولا شكّ أنّه عنى بذلك من يقول بالإمامة الاثني عشر، ويدين بأنّهم أفضل الأنام بعد النبيe؛ فإنّ هذا دأبه وديدنه فيهم، يُشنّع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم، وينسب الفضائح والقبائح إليهم، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، فإنّما يستحقّ الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد، هذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين، ومن اعتقد أنّ غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام<[27].

والمتحصّل من جميع ما تقدّم أنّ نسبة علم الغيب إلى الأئمةi إنّما يستلزم الكفر فيما لو كان القصد إلى بيان استقلالهم كما هو ديدن الغلاة، وإلّا فنحن نؤمن بأنّ الله يطلعهم على الغيب، ولا مانع من أن ينسب لهم إلىهمi علم الغيب بهذا المعنى أعني علم الغيب التعليمي أو التبعي، مقابل علم الله تعالى الذاتي الأصيل.

ـــــــــــــــــــــــ

[1] كمال الدين وتمام النعمة، ص94.

[2] کمال الدين وتمام النعمة، ص106.

[3] رجال النجاشي، ص375.

[4] الفهرست، ص132.

[5] الأنعام، 59.

[6] يونس، 20.

[7] النمل، 65.

[8] هود، 123، والنحل، 77.

[9] الأنعام، 50.

[10] هود، 31.

[11] الأعراف، 188.

[12] الجن، 26 و27.

[13] آل عمران، 179.

[14] هود، 36.

[15] نوح، 27.

[16] انظر: تفسير العياشي، ج2، ص144، الكافي، ج8، ص283.

[17] جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري)، ج29، ص63، الجامع لأحكام القرآن (تفسیر القرطبي)، ج18، ص313، وقد نقله الشيخ أبو جعفر الطوسيS في التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص142، عن قتادة.

[18] هود، 81.

[19] آل عمران، 49.

[20] آل عمران / 45 و46.

[21] القصص، 7.

[22] نهج البلاغة، ص186.

[23] رجال الكشي، ص298، والمقصود من كونها وراثة يعني بلحاظ أصلها، وإلاّ فقد ورد أنّهمi يزدادون في علومهم، وورد أنّ تلك العلوم تُعرض أوّلاً على رسول اللهe كما في البصائر، ص394 عن أبي عبد اللهg قال: >إذا كان ذلك، بُدِئَ برسول اللهe، ثم الأدنى فالأدنى حتى ينتهي إلى صاحب الأمر الذي في زمانه<.

[24] أوائل المقالات ص67.

[25] الظاهر أنّ نظره إلى الحاكم أبي سعيد الجشمي البيهقي (م494هـ ق)، وقد ذكروا أنّ الزمخشري في الكشاف معتمد على تفسيره.

[26] يعني قوله تعالى في سورة هود، 123: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

[27] مجمع البيان ج5 / ص313، ولاحظ: البحار ج26 / ص103.

 

مشاركة: